"صفقة تبادل الأسرى ... بداية "اليوم التالي

الكاتب: هاني المصري
تشكل صفقة تبادل الأسرى محطة مفصلية في مسار الصراع، إذ تمثل لحظة اختبار حقيقية للنية السياسية لدى الأطراف كافة، وبداية مرحلة جديدة لما يمكن أن يُسمّى «اليوم التالي» للحرب. فالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين يؤكد جدية حركة حماس في الالتزام بتطبيق الجزء المتعلق بها من الاتفاق، رغم أن حكومة نتنياهو أخلّت بالتفاهمات والمعايير التي ستحكم إطلاق الأسرى الفلسطينيين، وخصوصًا القادة والرموز الذين يشكلون ثقلًا وطنيًا وتاريخيًا. فالإفراج عن هؤلاء كان سيُعدّ نصرًا رمزيًا وسياسيًا كبيرًا، ويثير في الوقت نفسه خشية إسرائيل من دورهم المحتمل في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني. هذه الغصّة لا تلغي فرحة الشعب الفلسطيني بوقف الإبادة الجماعية وبإطلاق سراح أكثر من ألفي أسير، لكنها تذكير بأن النصر ما زال ناقصًا وأن المعركة لم تنتهِ بعد.
المشاهد التي تابعها العالم عقب الصفقة، حين نزل آلاف المسلحين من عناصر الشرطة والأمن الداخلي والفصائل الفلسطينية إلى الشوارع لضبط الأمن وملاحقة العصابات والعملاء، كانت رسالة بالغة الدلالة. فهي تؤكد أن المقاومة، رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بها، ما زالت واقفة على قدميها و قادرة على الفعل، وأنها لم تُكسر كما أراد الاحتلال. وربما لهذا السبب أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن مسلحي المقاومة سيتولون حفظ الأمن في هذه المرحلة، في إشارة إلى اعترافٍ ضمنيٍّ بقدرتها على إدارة الواقع الميداني.
إن استعداد حماس للتخلي عن الحكم — إذا تحقق، ومن المفترض أن يتحقق لتجنّب استئناف الحرب وفتح باب الإعمار — لا يعني خروجها من المشهد الفلسطيني، بل قد يشكل انتقالًا من موقع السلطة إلى موقع المشهد الوطني الأوسع. ومن هنا فإنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في من يحكم غزة، بل في كيفية إدارة اليوم التالي للحرب، وضمان ألّا يتحول الفراغ السياسي إلى شكل جديد من أشكال الاقتتال الداخلي او الاقتتال مع قوة "الاستقرار".
ولعل الدعوة المصرية للحوار الوطني تمثل فرصة تاريخية ينبغي اقتناصها. فقد أبدت مختلف الفصائل تجاوبًا معها، ويبقى المطلوب أن ترتقي القيادة الفلسطينية بمختلف الفصائل والأطر إلى مستوى اللحظة، وأن تتحمل مسؤولياتها الوطنية في تحقيق الوحدة على أساس برنامج سياسي مشترك، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية، ولا سيما مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الإطار الجامع والممثل الشرعي للشعب الفلسطيني, حتى يكون اليوم التالي فلسطينيا وليس وصاية أجنبية على قطاع غزة تكرس فصل الضفة عن القطاع وتضرب وحدانية التمثيل الفلسطيني بالصميم حتى لو ترافقت مع مشاركة رمزية للسلطة، فهناك فرقا جوهريا حاسما بين ان تحكم سلطة فلسطينية مرجعيتها توافق وطني، حتى لو كان عليها اشراف ومراقبة عربية ودولية، وبين حكم أجنبي مع شاهد زور فلسطيني يمنحها الشرعية الفلسطينية.
ولكي لا يتكرر مصير الحوارات والاتفاقات السابقة، لا بد من خارطة طريق واضحة تبدأ بخطوات عملية: وقف التحريض الإعلامي، واتخاذ إجراءات لبناء الثقة، والاقدام على خطوات تستند إلى توافق على مواقف ومعالجة مسائل مختلفة يتم التوافق عليها، وايجاد حتى نوع من تبادل الأدوار، وتحريم الاقتتال والتخوين والتكفير والإقصاء. ثم الانتقال إلى صياغة برنامج وطني مشترك، تمهيدًا لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تُحترم نتائجها، ليقرر الشعب الفلسطيني عبرها طبيعة مشروعه الوطني ومن يمثله في المرحلة المقبلة.
إن صفقة التبادل ليست النهاية، بل بداية جديدة؛ بداية اختبار الإرادة الفلسطينية وقدرتها على تحويل الصمود الأسطوري وثورة البشرية نصرة للحقوق الفلسطينية إلى مكسب وطني شامل، وعلى الانتقال من صمود الميدان إلى دحر الاحتلال و إنجاز الدولة والاستقلال.