مسافر يطا بين نارين
الخليل- رايــة:
طه أبو حسين-
على بعد كيلو مترات من يطا جنوب الخليل تقع مسافر يطا التي تزيد مساحتها عن عشرات آلاف الدونمات، الممتدة حتى مشارف البحر الميّت، فهناك الطبيعة الحقيقية بهدوئها وجمالها وسحرها الأخاذ، وهناك أيضاً مساحات شاسعة لفضاء الروح التي تأخذ مجد الفكر والتفكر بها وأركان الحياة، لا يشوبها أيّ ضجيج أو ملوثات سوى الاستيطان الذي يهدد أمن كلّ من يسكنها ويسلب الطفولة التي أصابها الكهل مبكراً.
سندس وزهرة وديانا من "المفقرة" في سوسيا شرق يطا وتعداد سكانها قرابة 450 نسمة على مساحة تتجاوز عشرة آلاف دونم سلب الاستيطان أكثرها، ثلاثتهن كنّ يلعبن تحت بقايا منزل (زينكو) هدمته جرافات الاحتلال، شقراوات هنّ بالأساس غير أن الشمس سرقت منهن بعض البياض ومنحتهن سمرة الحياة البدوية، فكان لابتسامتهن الطفولية سحراً عربياً أصيلاً يتداخل بها خوفاً لا يعرف عنوانه إلا من سكن قريتهن أو زارها وعايش ما يتعرضن له بصورة شبه يومية من اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال.
بين التصفيقة والأخرى كانت تتداخل ضحكات الثلاثة، ثلاثتهم أعمارهن ما بين العاشرة والثانية عشرة عاماً، الوسطى بينهن سندس وهي الأولى على مدرسة سوسيا المختلطة بدرجة 99%، وكما يقال الذكاء يفيض من عينيها وهي تقول ببساطة "نلعب على المراجيح يوميا، ودائما نتشاجر ونزعل ثم نتصالح، فالحياة حلوة، وأحلى ما في المفقرة الهواء النقي، والعيشة المريحة، والنبات الجيّد".
سندس وزميلاتها يذهبن للمدرسة يومياً _شتاءً وصيفاً_ مشياً على الأقدام، يلازمهن الخوف من اعتراض أحد المستوطنين لطريقهم والاعتداء عليهن، ولأن سندس حريصة على تعليمها لا يقتصر خوفها على نفسها وزميلاتها، بل يمتد على مدرسيها الذين لا يصلون المدرسة في بعض الأحيان لاعتراض حاجز الاحتلال طريقهم ومنعهم من وصول المدرسة وبالتالي خسارة سندس لحصصها الدراسية والمعلومات الجديدة التي تتعطّش لها.
مع أننا في ظل الثورة التكنولوجية والعمرانية إلا أن سكان (المفقرة) ما زالوا يعيشون الحياة البدائية بالكهوف ومنازل من الزينكو أو الخيام. ورعي الأغنام المهنة الأم لجميع سكانها، والطفلين أحمد وموسى جمال حمامدة يسرحان مع أغنامهما في البراري بعدما تركا الصفوف المدرسية.
اجتمع الأخوين على حب المفقرة لطبيعتها والحياة بها، فيخرجان من ساعة الشروق حتى مغيب الشمس في الجبال بصحبة غنمهم، "الحياة حلوة جدا هنا، خاصة أنها تتيح لنا التجول دائما في الجبال فانا أحبها لأنها تنتج الحليب والزبدة وغيرها ونبيعها للتجار، وأحلى ما في المنطقة الهدوء عكس وسط البلد التي تضج بالفوضى".
موسى يجلس على قمة الجبل ينظر على امتداد بصره الذي لا ينتهي الا مع السراب وهو يقول :"طول الوقت هناك اعتداءات إسرائيلية، يرجمونا بالحجارة، ونخاف منهم، لكن نحاول قدر الإمكان عدم إظهار خوفنا حتى نحمي أنفسنا".
في قرية ( أم الخير) كان الطفل سلطان الهذالين يلعب على دراجته الهوائية بمحاذاة بيته الذي تلتصق به مستوطنة اسرائيلية، "المستوطنون يدايقوننا في كل مكان، يسرقون الغنم، ويحرقون المحاصيل، ويطلقون النار علينا، ويهدمون بيوتنا".
أما عن خوفه فلم يعد يخافهم مع أن سنّه لا يتجاوز الثانية عشرة، وبصيغة أخرى بات الاعتداء عليهم عادياً والخوف كذلك.
في الجهة الأخرى لأم الخير كان الطفل سالم الهذالين يتكئ على سياج المستوطنة، عمره يقدر ست سنوات مع أنه لا يدري عنه شيئا، غير أن لسانه مسحوب منه كما يقال في الروايات الشعبية، "المستوطنون يعتدون علينا بالجرافات والسيارات العسكرية، يهدموا بيوتنا ونحن نائمون، ويخيفونا، لكن أنا لا أخاف من جيش (لأنهم كلاب)، لكني أحلم بالليل أشياء مخيفة".
مع استمرار الاعتداءات بمختلف ألوانها بات الطفل الخائف يصدح بعدم خوفه كونه اعتاد على ذلك، محاولاً إظهار قوة تتضارب والخوف الذي عشعش فيه، فأحلامهم مستوطنين وجيش احتلال، وواقعهم لا يختلف عنها إلا بفارق عناق جفن العين.