الأم العنيدة على موعد مع اللقاء المنتظر
بيت لحم - رايـــة:
حسين أبو عواد- نمتلئ بالأحلام قدر استطاعتنا..ولا ندرك أن لها ثمن ندفعه من رصيد العمر إلا بعد فوات الأوان…أما أحلام أم محمد فاختزلت جميعا بحلم وحيد..القفز بالزمن إلى موعد اللقاء المرتقب بنجليها محمد ومحمود البلبول الذين انهيا اليوم الأربعاء، إضراباً مفتوحا عن الطعام استمر ما يزيد عن الشهرين. ومع هذا، تدفع الوالدة ثمنا لهذا الحلم الوحيد أضعافاً مضاعفة قد يفوق ما برصيد عمرها من قوة وتحمل فقط لتضم ولديها بعد غياب.
بدا كل شي في منزل البلبول جامد، حتى الأحلام، فيما وثق وجع الفراق وجوده واضحاً في ملامح الأم المكلومة لتقص تجاعيد وجهها التي تكونت بين ليلة وضحاها على مسامعنا تفاصيل الحكاية:"والله ما عرفتهم لما شفتهم بالمستشفى" قالت أم محمد واصفة الحال الصحي المتردي لولديها بعد سبعين يوم من الإضراب عن الطعام، فقد أنهك التعب جسد محمد مفتول العضلات وأخفى ابتسامة محمود، طبيب الأسنان، والتي لطالما افتخر بها.
بدت متعبة، لكنها كانت تضج بالأمل كلما تحدثنا أكثر عن زيارتها الأخيرة لولديها في المستشفى، فالوالدة العنيدة اقتنصت من ولديها وعدا تسعى إليه كل أم: الأحفاد، "حكولي بدهم يعبولي البيت أولاد، وبدي أسميهم كلهم أحمد واحد وأحمد اثنين على إسم سيدهم يعني" قالت الأم فيما يكاد قلبها يقفز من صدرها طرباً بهذا الحديث "يا من ترى أشوف اولادهم وأربيهم" استدركت أم محمد وكأنها أفاقت للتو من حلم آخر جميل.
ولقصة استشهاد الوالد وقع مختلف على الشقيق الأكبر محمد، الذي سمع والده يلفظ أنفاسه الأخيرة عبر الهاتف فيما يوصيه "أدرس يابا وارفع راسنا"، فقد كان محمد وقتها يستعد لامتحانات الثانوية العامة، فسمع طائرات الأباتشي تفتح رشاشها مستهدفة والده.
تستذكر أم محمد تلك اللحظات وكأنها لا تزال تلوم زوجها على تخليه عن حسه الأمني" زوجي تخفى حينها في زي رجل كنيسة ومعه عكازة، وذهب بنا الى منطقة "سي" تخضع لسيطرة الاحتلال الاسرائيلي وعلى الرغم من تحذيري له بعدم الذهب لم يكترث في ذلك واستمر في السير وكانه يشعر بانه سيفارق الحياة قريباً لدرجة انه لاحظ مراقبة الطائرات والمركبات الاسرائيلية له ولكنه استمر في الرحلة واوصلنا على منزل والدي وقال سيعود بعد عشر دقائق ليصطحبنا الى منزلنا ولم يعد الى الان".
كل شيء نعتقد أننا نسيناه يستوطن أعماقنا، حقيقة أخرى باتت أم محمد مؤمنة بها وهي تراقب مصير ولديها خشية أن يشابه مصير والدهم من قبلهم والذي اغتالته إسرائيل قبل ثماني سنوات، وها هي اليوم "إسرائيل" تعاقبها بأولادها وتهددها بتكرار ذات الخسارة وكأنها تتعمد إيلامها فيما تصر هي على التمسك بتلابيب الأمل “بدهم يطلعوا وبدهم يوفوا بوعدهم إلى وبدهم يرجعوا للبيت الحياة ويرجعولي أنا روحي”.
كانت صادمة بثقتها وحازمة برفض البدائل وأمام صدق حلمها شلت اللغة. فالأحلام لا تطرق الأبواب كزائر لطيف كما نعتقد بل تقبع هناك على أطراف المدينة مترقبة مرور حالم لا ينام كهذه السيدة العنيدة.