من قرية فرخة إلى العالمية
رام الله- رايــة:
فارس كعابنة-
قبل 16 عاما من اليوم، وفي موسم قطاف الزيتون أيضاً، كان ابن قرية فرخة بكر حماد يضرب كفّاً بكف وقد تكدست جرار الزيت في منزله لا تجد من يشتريها. وكان الخوف من مجهول قد ينهي حياته الزراعية يسيطر على كل تفاصيل حياته. أما اليوم، فتوج ورفاقه الـ١٦ ملوكا على عرش زراعة الزيتون.
وعلى نحو غريب جرت الرياح بما تشتهي سفينة بكر ورفاقه لترسو على بر الأمان بعدما اوشكت على الغرق عام 2000 عندما لم يجد بكر من يشتري زيته وأضطر لبيعه بأبخس الاثمان بواقع 6 شيكل للكيلو.
كان الفلسطينيون في الضفة يوردون زيتهم لغزة والاردن ودول الخليج، لكن عام 2000 المشؤوم وضعهم على المحك، "اوشكنا على ترك العمل بالزيتون.. الاردن اكتفى بزيتها ولم نستطع ايصاله لغزة والكويت رفضته، وصار عندنا فائض كبير" يقول بكر مستذكرا اياما يتمنى الا تعاد وهو يثبت خطواته في ارض وعرة في سفح جبل منحدر يعمل على استصالحها اليوم لزراعتها.
وبكل حماسة، قص علينا حماد الحكاية، التي بدأت عندما قرر هو وثمانية مزارعين من أبناء قريته الاتحاد لمواجهة الازمة حينها، عبر تجميع زيتونهم وعصره بشكل جماعي، الأمر الذي ساعدهم على فرض شروطهم على صاحب المعصرة "باتت المعاصر تتنافس على اخذ الكمية المجمعة وتقدر بـ4 طن زيتون"، يقول بكر بنصف ضحكة تشير الى انتصار أول.
العصر الجماعي شكل طرف خيط، عقده الشركاء التسعة لإكمال الدرب في محاولة "للخروج من عنق الزجاجة" كما يصف حماد بعبارة أخفق الساسة في استخدامها وأتقنها المزارعون.
أما الخطوة التالية فبثبات أقدموا عليها عام 2003 عبر ترخيص جمعية فرخة التعاونية لانتاج الزيت العضوي. ولإن الأحلام تكبر، "صار عدد المجموعة 17 مزارعا من القرية وهذا احدهم"، قال حماد، مشيرا بيده الى مزارع مر بالصدفة عبر طريق ترابي قادما من ارضه الزراعية على ظهر حماره.
وصار المزارعون يسوقون زيتهم بمواصفات عالية في كل من فرنسا، بلجيكا، سويسرا وحتى اليابان، يقول بكر، لا سيما بعد حصولهم على ترخيص "اول مزرعة عضوية للزيتون" والتي أسست على مساحة 400 دونم متفرقة في سفوح الجبال المحاذية لقرية فرخة.
يقولون إسأل مجرب ولا تسأل خبير، لكن المزارعين الـ17 باتوا الان مجربين وخبراء في آن معاً، ومتخصصين في الزراعة العضوية تحديداً وعدم استخدام اي مادة كيماوية في سماد الزيتون. "كنا نرش الزيتون بالكيماويات ولا نسأل عن العواقب، حتى بات الموسم ضربة حظ.. سنة جيدة واخرى لا نقطف فيها شيء، اما الان صارت كل السنين متساوية وجيدة، ونخرج زيتا صحيا وعضويا لا يجد اي صعوبة في التسويق" قال أحدهم فيما ينفض يديه من التراب.
وبلغة الأرقام، كان المزارعون يبيعون الزيت بـ7 شيكل للكيلو في السنوات العجاف الاولى، اليوم يبيعونه بـ26.5 شيكل، إضافة لـ2.5 شيكل تحصل عليها الجمعية التعاونية المكونة من 17 مزارعا لقاء فائض ربح ما يعرف بالتجارة العادلة.
ويأخذ حماد الان زيتون ابناء عمومته واخواله بالضمان، فيعتني به ويسوق زيته لصالحهم.
ولم تكن نجاة المزارعين من مأساة تسويق الزيت -المستمرة حتى الان في مناطق فلسطينية عدة- محض صدفة، أو حتى بمعزل عن كون قريتهم لا تشبه ابدا القرى المحيطة بها من كل جانب.
فقد اختيرت "فرخة" عام 2015 من ضمن مئات القرى البيئية حول العالم، ما يعني انها تأكل مما تزرع، كما "تعرف كيف تأكل" كما يقول حماد الذي يعيش اجواء قصة عمرها اعوام وصلت فيها قريته الى ما وصلت اليه.
حتى حمامهم صمموه بطريقة بيئية مبتكرة، فلا شيء يدخل في صنعه من غير مصدر طبيعي، ويسمونه الحمام الجاف، اذ يعتبر صديقا للبيئة بخلاف الحفر الامتصاصية التي تدمر البيئة الزراعية وفق خبرة السنين التي اكتسبها حماد وروى لنا جزءا منها.
وفيما تتنافس الكتل والأحزاب هذه الايام على انتخابات رئاسة المجالس القروية والبلدية، يحلم حماد بأن تنافس قريته فرخة أجمل قرى العالم في أنماط الزراعة العضوية والصداقة مع البيئة ملمحاً إلى القرية البرتغالية التي زارها قبل شهر فسلبت عقله. "نحتاج إلى سنوات لنصل الى ما وصلوا اليه" قال متنهداً ثم أردف هازاً رأسه "أمامنا الكثير".
يقال ان العالم من صنع أعظم الحالمين، لكن حماد ورفاقه سمحوا لحلمهم أن يبني لهم عالمهم المختلف والذي يحلم به الكثيرون.