عدن وتسنيم: رحم واحد وقدران متنافران
رام الله - رايــة:
مجدولين زكارنــة -
نمتلئ بالأحلام قدر استطاعتنا، لكن حتى الأحلام لها ثمن يدفع من رصيد العمر.. فبينما كانت تسنيم تستعد لمغادرة دميتها ومدرستها لتحجز لنفسها مكانا في عالم الجامعة بكل نضجه وتعقيداته وسحره، انشغلت عدن، شقيقتها التوأم، بصف حبات الخرز الأخضر في خيط بلاستيكي مقوى غير آبهة بما يدور حولها ولا حتى بـ"بحركشاتي بها".
فهذه الشابة العشرينية بجسدها لا تزال بعمر العاشرة عقليا، وهذه أهم أعراض متلازمة داون التي اختارت عدن دون توأمها تسنيم لتروي قصة رحم واحد جمعهما وقدران فرقاهما.
ومتلازمة داون مرض جيني ناجم عن خلل في انقسام الكروموسومات ما يؤدي إلى ولادة جنين بملامح مختلفة عن الجنين الطبيعي مثل مؤخرة الرأس المسطحة، العينان الواسعتان المتباعدتان، ضعف العضلات، قصر القامة وتأخر عقلي.

وعلى الرغم من بعد المسافات بين الشقيقتين، بعد سفر تسنيم للدراسة، إلا أن مجرد ذكر اسمها يكون كافيا ليرسم على وجه عدن ابتسامة شقية كانت حيلتي لأحظى باهتمامها لفترة وجيزة قبل أن تنشغل مجددا بصناعة اسوارتها من حبات الخرز التي تتقن التقاطها رغم صغر حجمها.
"وجود تسنيم في حياة عدن كان عاملا مساعدا في عملية علاجها والتعامل معها" قالت والدة عدن وهي تراقب ابنتها بحب وتجيب على كل أسئلتها. "عدن كانت تقلد توأمها منذ الصغر وهكذا تعلمت الحبو والمشي والنطق..حتى أنها قلدت شقيقتها بحبها للشعر الطويل وفرضت علي هذه المهمة الجديدة" تقول الوالدة ضاحكة بينما تمرر يدها بشعر عدن المرفوع جزئيا.
وتتذكر الوالدة الأيام الأولى التي تلت سفر الشقيقة تسنيم للدراسة في الولايات المتحدة "دخلت في حالة صمت مخيفة، لم ننجح في حثها على التفاعل معنا لأيام..هذا الصمت لم يقطعه سوى اتصال تسنيم بنا عبر "سكايب" تقول الوالدة.
رحلة الوالدة مع عدن لم تكن سهلة، فهي بحاجة إلى رعاية مستمرة وتدريب متواصل على أشياء طبيعية بالنسبة للفتاة المعافاة كالحركة وتناول الطعام واستخدام المرافق الصحية والنظافة الشخصية، عن هذا تشرح الوالدة كيف بلغت عدن، جسديا بالطبع، قبل توأمها تسنيم "كان كابوسا من نوع مختلف" تقول الوالدة "لم تتقبل عدن التغيرات الجسدية والفسيولوجية التي تمر بها وظلت على هذا الحال إلى أن بلغت شقيقتها، وقتها فقط شعرت بأنها طبيعية" استرسلت الوالدة وقد لمعت عيناها تأثرا.

ولا تختلف الاحتياجات الجنسية لدى هذه الفئة عنها لدى الآخرين، تقول عبير حمد،الاخصائية الاجتماعية في مركز النجمة لـ"رايـة":" نوجّه المصابين بمتلازمة داون وخاصة الذكور في فترة البلوغ الى كيفية التعامل مع احتياجاتهم والتغيرات الجسمية الطارئة بشكل سليم الى ان يعتادوا على ذلك وكلما كان الارشاد والتربية الجنسية مبكرة كلما كانت اسهل وأنجح".
حالة عدن الصحية متذبذبة نوعا ما، ومن ملاحظات المعلمة المشرفة رشا انها ازدادت خجلا في الفترة الاخيرة وتجدها كثيرا تتحدث مع نفسها.. وترى امها ان السبب في ذلك يعود الى عدم انتظامها خلال فترة شهر رمضان والعيد في الاندماج مع زملائها في الجمعية.
أول شيء تفعله عدن صباح كل يوم هو الذهاب إلى المركز الخاص بعلاجها تمضي فيه نصف نهارها وتعود مع عودة اخوتها من المدرسة ترتب امورها تتناول طعامها بصحبة عائلتها تقلب في صفحات الكتب كما يفعل اخوتها وقت الدراسة، اما الوقت المتبقي من يومها فهي حرة باختيار ما تريد فعله من رسم او تلوين او مساعدة بسيطة لوالدتها في بعض الاعمال المنزلية .
عند زيارتي لعدن لاول مرة في صفها بالجمعية لاحظت اناقتها وترتيبها وخجلها وهذا ما اتفقت معي عليه معلمتها رشا التي قالت: "عدن نظيفة ومنظمة تهتم بلباسها وتحب قص غرتها بشكل دائم".
لم يكن الترتيب والنظام صفتا عدن الوحيدتين هناك ايضا شغفها بالخرز الذي تتقنه كما لو انها فنانة تصنع اساور وعقود خرزية وتساعدها ذاكرتها على حفظ اعمالها.

حياة عدن لا تسير بانسياب تام، تواجه وأهلها رفض المحيطين وجهلهم بحالتها .
ويعتقد الكثيرون ان هذه الفئة عدوانية غير قادرة على التعلم والاندماج بالمجتمع .
لم تستطع الوالدة كبح ملامح وجهها عن البوح بما يعتمل في صدرها من ضيق وحزن وغضب:" أتضايق جدا من نظرات المحيطين تجاه ابنتي ولكني اعتبرها هدية من الله واتمنى ان يتحول جهل المجتمع وتجاهل الجهات الرسمية لهذه الفئة الى اهتمام ورعاية".
تشير الاحصائيات الواردة من" مؤسسة الرحيم - اصدقاء متلازمة داون" الى أن مولود واحد من بين 770 اخرين مصاب بالمتلازمة في الضفة أي ان 3500 شخص ولد بهذا المرض، أما بالنسبة لقطاع غزة فهناك غياب للإحصائيات حسبما أفاد مدير جمعية الرحيم حيدر ابو مخو.
الجهات المهتمة بهذه الشريحة قليلة في فلسطين بعض المحافظات تفتقر الى المراكز الخاصة ويضطر البعض لنقل ابنائهم الى مدينة رام الله لتلقي العلاج .
وقالت الأخصائية الإجتماعية في جمعية الياسمين فاطمة عيد لـ"رايـة" أن قرابة 500 حالة بحاجة الى الانضمام للعلاج في الجمعية لا تزال على قائمة الانتظار نظرا لعدم وجود متسع لها.
اما عن الدعم المالي للجمعيات المتخصصة في تاهيل ذوي الاحتياجات الخاصة فيقتصر على ذوي النزلاء اضافة الى بعض الشركات والبنوك الخاصة وصناديق التبرعات المنتشرة في المحال التجارية.
ودعتني عدن بذات الابتسامة الشقية والنظرات المشتتة وغادرت المكان اغبطها على قدرتها على صنع الفرح في حياتها بينما يحتاج منا، نحن المعافون جسديا، الكثير لنسرق منه موعدا بعيدا عن أحزاننا المتلصصة.


