مأسسة المنظومة الرياضية في فلسطين.. من الفوضى التنظيمية إلى الرؤية الوطنية
الكاتب: د. رافي عصفور
رياضة بلا مأسسة.. إنجازات بلا استدامة
لا يمكن لبلدٍ يناضل من أجل حريته أن يترك رياضته تائهة بين الاجتهادات الفردية والمزاجية المؤسسية. فالرياضة الفلسطينية اليوم تقف على مفترق طرق: إما أن تبقى رهينة الفوضى والعشوائية، أو أن تنطلق نحو مرحلة جديدة من المأسسة، والتخطيط، والمهنية التي تليق باسم فلسطين وشبابها.
ورغم أن فلسطين حققت إنجازات مشرفة في ظل الاحتلال والظروف الصعبة، إلا أن الواقع الرياضي لا يزال يعاني من تداخل الصلاحيات، وتكرار الأدوار، وغياب المرجعية الواضحة. وزارة هنا، مجلس هناك، ولجنة أولمبية في المنتصف، واتحادات وأندية تعمل أحيانًا بعزيمة، وأحيانًا بردة فعل. النتيجة؟ جهد مبعثر ومواهب تضيع في الزحام.
من العاطفة إلى التخطيط العلمي
لقد آن الأوان أن نعترف: لا يمكن تطوير الرياضة الفلسطينية بــ"العاطفة"، بل بالعلم والإدارة والتخطيط. فالمأسسة ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، بل منهج عمل وطني يقوم على وضوح الرؤية، والحوكمة الرشيدة، والمسؤولية المشتركة بين الدولة والمجتمع.
إن أولى خطوات المأسسة تبدأ من القانون. لا يُعقل أن تبقى قوانين الرياضة في فلسطين أسيرة اجتهادات قديمة لا تواكب التطور الدولي. نحتاج إلى تشريع رياضي عصري يحدد بوضوح الأدوار والمهام، ويمنح المؤسسات الرياضية استقلالًا إداريًا وماليًا، ويضع معايير شفافة للمساءلة والمحاسبة.
الإنسان هو البداية
العنصر البشري هو الحلقة الأضعف في الرياضة الفلسطينية. ما زلنا نفتقر إلى إدارات مؤهلة تمتلك أدوات القيادة الحديثة والتخطيط الاستراتيجي. كثير من الأندية تُدار بالعلاقات الشخصية لا بالمؤشرات، وكثير من الاتحادات تتعامل مع الرياضة كهواية لا كصناعة وطنية.
المأسسة هنا تعني التحول من النوايا الفردية إلى السياسات الجماعية، ومن المبادرات العاطفية إلى البرامج المهنية.
الرياضة كقوة وطنية
إن مأسسة الرياضة الفلسطينية ليست ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة وطنية. فهي تعني تحويل الرياضة من نشاط هامشي إلى منظومة إنتاج وطني ترتبط بالتربية والتعليم، وبالصحة، وبالاقتصاد، وبالهُوية.
في بلد يعاني من التحديات السياسية والاقتصادية، يمكن للرياضة أن تكون جسرًا للوحدة، وأداة للصمود، ومساحة للأمل. لكن هذا لن يتحقق إلا بإرادة سياسية واضحة تضع الرياضة ضمن أولويات الدولة، لا على هامشها.
نحو إستراتيجية وطنية للرياضة الفلسطينية
المطلوب اليوم هو إستراتيجية وطنية موحدة للرياضة الفلسطينية، تُبنى على الحوار بين الأكاديميين والخبراء والمدربين واللاعبين، بعيدًا عن المصالح الفئوية والمجاملات.
لقد أثبتت تجارب الدول أن الرياضة لا تزدهر إلا حين تصبح مؤسسة لا مزاجًا، نظامًا لا ردة فعل، ورؤية وطنية لا بطولة فردية.
خارطة طريق لمأسسة الرياضة الفلسطينية:
1. إقرار قانون وطني شامل للرياضة يحدد الصلاحيات والعلاقات بين المؤسسات الرياضية الرسمية والأهلية، ويرسخ مبادئ الشفافية والمساءلة.
2. تأسيس مجلس وطني أعلى للرياضة يضع الإستراتيجيات العامة ويشرف على تطبيقها ضمن خطة زمنية واضحة.
3. إعادة هيكلة الاتحادات والأندية وفق معايير الحوكمة والإدارة الحديثة، مع تقييم سنوي لأدائها.
4. تطوير التعليم الرياضي الأكاديمي وإطلاق برامج لإعداد القيادات الرياضية بالشراكة مع الجامعات الفلسطينية.
5. تشجيع الاستثمار الرياضي عبر حوافز للقطاع الخاص وتمويل البنية التحتية والمشاريع المجتمعية.
6. إنشاء قاعدة بيانات وطنية للرياضيين والمدربين والإداريين، لتسهيل التخطيط المستقبلي الدقيق.
7. دمج الرياضة في المنظومة التعليمية من المدرسة إلى الجامعة باعتبارها ركيزة من ركائز التربية الوطنية
من الحلم إلى النظام
إن مأسسة المنظومة الرياضية في فلسطين ليست مشروع وزارة أو لجنة، بل مشروع وطن. مشروع يؤمن بأن الرياضة هي لغة الشعوب الحرة، وصورة الوطن في أعين العالم، وطريقٌ لصناعة الإنسان الفلسطيني المتوازن القادر على البناء كما هو على النضال.
فالرياضة ليست مجرد لعبة، بل قضية وكرامة، ونظام يعبّر عن روح وطن يسعى نحو الحياة.

