الثابت الوحيد هو المتغير: جدلية التحول الدائم في العلاقات الدولية

الكاتب: د. عمر رحال
في العلاقات الدولية، لا تبنى السياسات والقرارات على أساس العواطف أو الروابط الشخصية، بل تحدد وفقاً لمعادلات المصلحة القومية والأهداف الإستراتيجية للدول. فالمفاهيم التقليدية مثل "الصداقة" و"العداوة" لا تُعد سوى أدوات خطابية تستخدم في الخطاب السياسي والدبلوماسي، بينما الواقع تحكمه حسابات دقيقة تتعلق بالقوة، والموارد، والمكانة الدولية. ومن هذا المنطلق، قد تجد الدول نفسها متحالفة مع أطراف كانت في الماضي خصوماً لها، أو في مواجهة حلفاء سابقين، إذا ما اقتضت مصالحها الوطنية ذلك. فالتاريخ السياسي مليء بالأمثلة التي تظهر كيف يمكن أن تنقلب موازين العلاقات بين الدول بين ليلة وضحاها عندما تتغير مصالحها أو أولوياتها الإستراتيجية.
كما أن ديناميكية العلاقات الدولية تقوم على قاعدة "المصالح الدائمة"، حيث تظل مصلحة الدولة العليا هي البوصلة التي تحدد اتجاه سياستها الخارجية. فالتقارب أو التباعد بين الدول لا يقاس بدرجة الصداقة أو العداء، بل بمدى التقاطع أو التناقض في المصالح. وهذا ما يفسر ظاهرة التحالفات المؤقتة التي تنشأ لمواجهة تهديد مشترك، أو الصراعات التي تشتعل بين شركاء اقتصاديين بسبب تضارب الأهداف. إن فهم العلاقات الدولية من منظور المصالح يظهر أنها نظام مرن ومتغير، لا يعرف ثباتاً إلا في سعي الدول الدائم لتحقيق أمنها وتعزيز نفوذها في الساحة الدولية.
لذلك تقوم العلاقات الدولية، في جوهرها، على أساس نظرية القوة التي تشكل الركيزة المركزية للنظرية الواقعية في دراسة السياسة العالمية. فوفقاً إلى مورغان ثاو المنظّر الأهم للمدرسة الواقعية، يُنظر إلى الدولة باعتبارها الفاعل الأساسي في النظام الدولي، حيث تسعى كل دولة إلى تحقيق مصالحها القومية وحماية أمنها واستقرارها عبر تعظيم قدراتها المادية والعسكرية. وترى هذه النظرية أن النظام الدولي يتسم بالفوضى وغياب سلطة مركزية قادرة على ضبط سلوك الدول، مما يجعل القوة الوسيلة الرئيسة لتحقيق النفوذ وردع التهديدات. ومن هذا المنطلق، تتحدد طبيعة التحالفات والصراعات وفق ميزان القوى بين الدول، إذ أن العلاقات الدولية ليست إلا ساحة مفتوحة للتنافس والصراع على الموارد والمكانة والهيمنة، حيث تسعى كل دولة لتعظيم قوتها وضمان بقائها في مواجهة الآخرين.
في العلاقات الدولية، تُعد فكرة أن "الثابت الوحيد هو المتغير" انعكاساً للطبيعة الديناميكية والمعقدة للنظام الدولي. فالعلاقات بين الدول لا تقوم على أسس جامدة أو نهائية، بل تتأثر بعوامل متشابكة مثل التحولات الاقتصادية، والتطورات التكنولوجية، وتغير موازين القوى، والتحالفات السياسية. هذه العوامل تجعل البيئة الدولية في حالة سيولة مستمرة، بحيث تتغير الأولويات والسياسات وفقاً للمصالح القومية المتبدلة والظروف الإقليمية والعالمية. فالدولة التي تُعد اليوم حليفاً استراتيجياً قد تصبح غداً خصماً سياسياً، والعكس صحيح، وذلك بناءً على متغيرات الواقع ومقتضيات المصلحة العليا. لذا، فإن استقرار العلاقات الدولية لا ينبع من ثبات المواقف، بل من قدرة الدول على التكيف والاستجابة للتغيرات المتسارعة ضمن إطار استراتيجي مرن.
هذا المبدأ يتجلى بوضوح في تاريخ العلاقات الدولية، حيث نجد أن التحالفات الكبرى والحروب العالمية والتحولات الجيوسياسية جميعها كانت نتاجاً مباشراً لقاعدة التغير المستمر. فالتاريخ يعكس نمطاً متكرراً من إعادة تشكيل التحالفات والاصطفافات السياسية بما يتلاءم مع السياق الدولي في كل مرحلة زمنية. ومن هنا، يتضح أن نجاح الدولة في الساحة الدولية يعتمد على وعيها بأن لا وجود لثوابت مطلقة، وأن مرونتها في إعادة صياغة سياساتها واستراتيجياتها بما يتناسب مع التغيرات هو الضامن الأساسي للحفاظ على مكانتها وحماية مصالحها. وبالتالي، يصبح التغير في حد ذاته عنصراً ثابتاً في معادلة العلاقات الدولية، ومؤشراً على حيوية النظام العالمي وقدرته على إعادة إنتاج ذاته بصورة مستمرة.
لذلك تشكل التحالفات بين الدول ظاهرة محورية في العلاقات الدولية، إلا أن هذه التحالفات لا تُبنى على روابط عاطفية أو التزامات أخلاقية، بل تُؤسس بالدرجة الأولى على المصلحة القومية المشتركة بين الأطراف المتحالفة. فوفقاً للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية، تتجه الدول إلى إقامة التحالفات عندما ترى في ذلك وسيلة لتعزيز أمنها القومي، وزيادة قوتها، أو مواجهة تهديدات مشتركة. وبذلك، تصبح التحالفات أدوات إستراتيجية مؤقتة تخدم أهدافاً محددة، حيث تُقاس فعاليتها بمدى قدرتها على تحقيق المصالح الحيوية للدول الأعضاء. فجوهر أي تحالف لا يكمن في الخطاب السياسي أو الشعارات المعلنة، وإنما في ميزان المنافع والمكاسب التي يحققها لكل طرف ضمن بيئة دولية تتسم بالتنافس وعدم اليقين.
التاريخ السياسي للعالم يقدم شواهد واضحة على هذا النمط المتغير، إذ شهدت الساحة الدولية تحالفات كبرى انهارت بعد أن فقدت مبرراتها، وصراعات حادة تحولت إلى شراكات متينة حين تبدلت أولويات الدول. فالحروب العالمية، والحرب الباردة، والتحولات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، جميعها أمثلة حيّة على أن العلاقات بين الدول تعاد صياغتها باستمرار وفق ما تقتضيه المصالح الوطنية والظروف الدولية. وهذا يؤكد أن ما يبدو ثابتاً اليوم قد يتغير جذرياً غداً، وأن المرونة السياسية والقدرة على التكيف هما عاملان حاسمان في بقاء الدولة ونفوذها.
إن إدراك حقيقة أن التغير هو الثابت الوحيد في العلاقات الدولية يمنح صانعي القرار أداة أساسية لفهم البيئة الدولية وإدارة سياساتهم الخارجية بفاعلية. فبدلاً من التمسك بتحالفات جامدة أو مواقف غير قابلة للمراجعة، يُمكّن هذا الفهم الدول من تطوير استراتيجيات ديناميكية تتكيف مع المستجدات وتستجيب للتحديات. وفي عالم تسوده العولمة وتسارعت فيه وتيرة الأحداث، باتت المرونة السياسية ضرورة لا رفاهية، إذ إن التغير المستمر ليس تهديداً بحد ذاته، بل فرصة لإعادة بناء النفوذ، وصياغة الأهداف، وتحقيق المصالح في نظام عالمي دائم الحركة.
وبذلك، يمكن القول إن العلاقات الدولية هي نتاج عملية مستمرة من إعادة التشكل، حيث تتبدل الأدوار، وتتغير مواقع القوى، وتتطور أشكال التفاعل بين الدول. وفي هذا السياق، يصبح الثابت الوحيد هو إدراك أن لا شيء يدوم على حاله، وأن بقاء الدول ونجاحها يتوقف على قدرتها على التكيف مع واقع عالمي لا يعترف إلا بالمصالح، ولا يضمن فيه البقاء إلا من يمتلك القدرة على قراءة المتغيرات واستباقها.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، شهد النظام الدولي إعادة تشكيل شاملة للعلاقات بين الدول، ما جسّد بوضوح فكرة أن "الثابت الوحيد هو المتغير". فالحلفاء الذين قاتلوا معاً مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا، ضد قوى المحور، سرعان ما انقلبت علاقتهم من التعاون العسكري إلى التنافس السياسي والعقائدي. فقد دخل العالم مباشرة في الحرب الباردة، حيث انقسم إلى معسكرين متصارعين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي. المثال الأبرز على هذا التحول هو ألمانيا إذ كانت مسرحاً للحرب، ثم جرى تقسيمها إلى شرقية شيوعية وغربية رأسمالية، لتصبح رمزاً لصراع النفوذ العالمي. كذلك تم تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 لمواجهة التهديد السوفييتي، في حين رد السوفييت بإنشاء حلف وارسو عام 1955، ما أظهر كيف يمكن للتحالفات أن تتبدل جذرياً تبعاً للمتغيرات الإستراتيجية.
أما بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1991 وسقوط الاتحاد السوفييتي، فقد شهد العالم تحولات كبرى في خريطة التحالفات الدولية. فقد فقدت الكثير من الصراعات الأيديولوجية التي كانت قائمة معناها، وبدأت الولايات المتحدة بالتحول من مواجهة عسكرية مع السوفييت إلى قيادة نظام عالمي أحادي القطبية. دول أوروبا الشرقية، التي كانت سابقاً حليفة لموسكو وضمن حلف وارسو، سرعان ما انضمت إلى المعسكر الغربي، بل وإلى الناتو نفسه، مثل بولندا، والمجر، وجمهورية التشيك. كما شهدت روسيا نفسها تحولاً في استراتيجياتها، حيث سعت في التسعينيات إلى بناء علاقات مع الغرب، قبل أن تعود لاحقاً إلى نهج أكثر صدامية في العقدين الأخيرين. كذلك، تغيرت علاقة الولايات المتحدة مع الصين؛ فبعد أن كانتا على خلاف عميق في ظل الحرب الباردة، بدأتا بالتقارب في السبعينيات لمواجهة السوفييت، ثم انتقلت العلاقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى شبه شراكة اقتصادية متنامية، قبل أن تتجه مجدداً نحو التنافس الحاد، بل والتهديد في عهد الرئيس ترامب.
اليوم تهيمن الولايات المتحدة على النظام الدولي من خلال مزيج متكامل من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، ما يجعلها القوة الأكثر تأثيراً في رسم ملامح النظام العالمي. فعلى الصعيد العسكري، تمتلك واشنطن أكبر ترسانة تقليدية ونووية في العالم، إضافة إلى انتشار قواعدها في مناطق إستراتيجية تتيح لها فرض نفوذها وحماية مصالحها. أما على المستوى الاقتصادي فهي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، حيث تستند هيمنتها إلى قوة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وإلى سطوتها على المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مما يمنحها قدرة على توجيه السياسات الاقتصادية للدول النامية والضغط عليها. كما تلعب القوة الناعمة دوراً محورياً، إذ تستخدم الولايات المتحدة الإعلام، والتكنولوجيا، والثقافة، والمؤسسات التعليمية لتعزيز خطابها ونشر نموذجها السياسي والاقتصادي. إلى جانب ذلك، تهيمن واشنطن على الكثير من المنظمات الدولية من خلال حق النقض في مجلس الأمن ونفوذها في المنظمات متعددة الأطراف، ما يمكّنها من إعادة صياغة القواعد والمعايير وفق مصالحها. وبهذا، فإن الهيمنة الأمريكية ليست مجرد انعكاس لقوتها المادية فحسب، بل هي منظومة مركبة تجمع بين القوة العسكرية والاقتصادية والرمزية، وتبقيها في موقع القيادة داخل النظام الدولي.
يمكن القول إن تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة حول حتمية تشكيل نظام دولي متعدد القطبية، وانهيار الهيمنة على العلاقات الدولية باعتبارها مسألة وقت تحمل في طياتها أبعاداً إستراتيجية عميقة تتجاوز حدود المواقف الآنية إلى رسم ملامح مرحلة جديدة من العلاقات الدولية. فهي تعبّر عن رؤية متكاملة تدعو إلى إعادة صياغة النظام العالمي على أسس التعددية القطبية، وتؤكد أن زمن التفرد والهيمنة يقترب من نهايته. هذا التوسع في الخطاب يعكس إستراتيجية تتبناها روسيا والصين وحليفاتها من الدول بضرورة بناء نظام دولي أكثر توازناً، يقوم على احترام سيادة الدول وتكافؤ المصالح، ويعزز من دور القوى الناشئة والفاعلين الإقليميين في صنع القرار العالمي، بما يضمن تحولات جذرية في معادلات القوة والتأثير خلال المرحلة المقبلة. إن ما طرحه الرئيس الروسي بشأن قضايا التعددية القطبية في العالم يكتسب أهمية خاصة في سياق التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، حيث لم يعد من الممكن الاستمرار في إدارة العالم وفق منطق الهيمنة الأحادية أو إخضاع الشعوب لإرادة قوة واحدة تتحكم بمصير العلاقات الدولية. فالتعددية القطبية ليست خياراً سياسياً عابراً، بل هي استجابة موضوعية لحراك القوى الصاعدة وتنامي أدوار الفاعلين الدوليين والإقليميين. ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن انهيار الهيمنة ليس سوى مسألة وقت، إذ تؤكد مؤشرات الواقع السياسي والاقتصادي والاستراتيجي أن التوازنات الدولية آخذة في التشكل نحو نظام أكثر عدالة وتعددية، يتيح فرصاً أوسع لتحقيق السلم والاستقرار والتنمية على أسس من الشراكة المتوازنة واحترام سيادة الدول.
في ضوء ما سبق، يتضح أن العلاقات الدولية لا تعرف الجمود، بل تعكس حركة دائمة يعاد من خلالها تشكيل موازين القوى وفق مصالح متبدلة وسياقات متغيرة. إن إدراك هذه الحقيقة يمنح الدول ميزة إستراتيجية، إذ يتيح لها التكيف مع مسارات التحول وصياغة سياساتها الخارجية بمرونة وذكاء. ومن ثم، فإن بقاء الدولة وفاعليتها في النظام العالمي لا يُقاس بقدرتها على التمسك بالثوابت، بل بقدرتها على قراءة المتغير واستثماره بوصفه القانون الوحيد الثابت في العلاقات الدولية.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.