الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:18 AM
الظهر 12:26 PM
العصر 3:44 PM
المغرب 6:18 PM
العشاء 7:33 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

تطفيش ناعم… الطرق في الضفة مصيدة يومية

الكاتب: سلام الأطرش

ثمانون كيلومترًا فقط تفصل رام الله عن الخليل، لكن هذه المسافة القصيرة قد تُستنزف إلى ساعات من الانتظار والقلق. سبع ساعات أمضيتُها في رحلة يفترض أن تُنجز في ساعة واحدة ، سبع ساعات بين حواجز عسكرية وازدحامات خانقة وحوادث سير وبوابات مغلقة وسدّات إسمنتية تحوّل الطريق إلى اختبارٍ يومي للصبر والإرهاق.

في كل مترٍ من الطريق يشعر السائق أنه مراقَب ومقيَّد. كل بوابة تُفتح أو تُغلق تذكّره بأنه لا يملك حرية الحركة في أرضه. الزمن يتباطأ والمسافة تتضاعف، فتتحوّل رحلةٌ بسيطة إلى مشهدٍ متكرر من الإذلال اليومي. لا يقتصر الأمر على تعطّل المواعيد أو ضياع أوقات العمل ، ثمة آثار إنسانية مباشرة نساءٌ ورجال ينامون على الحواجز بعد انتظارٍ لساعات، مسافرون تُفقد حياتهم أو يصابون بنوبات قلبية نتيجة الإجهاد والتأخير الطويل، وأسر تبكي وفاة أو مرضًا حرمته من وداعٍ إنساني كافٍ.

الضفة الغربية اليوم ليست شبكة طرقٍ تربط المدن ببعضها كما يفترض، بل شبكة معقّدة من الحواجز والتحويلات والطرقات الالتفافية. شارعٌ يُفتح اليوم قد يُغلق غدًا، وطريقٌ رئيسيّ يتحوّل إلى مسارٍ ترابي يمرّ بين الحقول والبيوت لتجنّب بوابة جديدة أو حاجز طارئ. المواطن الفلسطيني يتعلّم الجغرافيا من التجربة اليومية: «اسلك طريق بيت أمر، لا، مغلق اليوم… جرّب طريق دورا… او طريق عصيرة … يمكن المربعة سالكة تروحش على الحمرا مغلق ». الرحلة داخل الوطن تشبه عبورًا للحدود في كل مرة.

ومن مظاهر المواجهة اليومية مع هذا الواقع، لجوء السكان إلى تنظيم أنفسهم رقميًا ، مجموعات واتساب وتيليغرام اصبحت تُدار على مستوى الأحياء والقرى والمناطق، يتبادل فيها الناس معلومات فورية عن فتح أو إغلاق الحواجز، عن مواقع التحويلات، عن حوادث السير وحالات الخطر. حتى أن الذكاء الاصطناعي اصبح اداة لمعرفة حالة الطرق من خلال تطبيقات خاصة ، هذه الشبكات المحلية الصغيرة صارت أداة بقاء تعوض غياب مؤسسات فعّالة تُعرِف المواطنين بمسارات آمنة أو تمنحهم ضمانات زمنية.

هذا الواقع ليس مصادفة. إنه شكلٌ مدروس من أشكال السيطرة ، سياسة يطلق الناس عليها «التطفيش الناعم». لا يُمنع الفلسطيني من السفر بالقانون الصريح، لكن يُرهَق حتى يتمنى لو لم يخرج. لا يُقال له «ارحل»، بل يُدفع به نفسيًا وجسديًا إلى كراهية البقاء. تُمارَس عليه الحرب بصمتٍ وبأدواتٍ مدنية ظاهرًا، لكنها سياسية حتى العظم.

في الوقت نفسه تُبنى طرق المستوطنات وتُوسّع بخطوط آمنة وسريعة، بينما تُخنق المدن الفلسطينية بالاختناقات والتأخيرات. كل توسعة هناك تقابلها تضييقات هنا ، وكل طريق يُبنى لصالح مستوطنة يعني تحويلًا أو إهمالًا لطريق يخدم قرية أو مدينة فلسطينية. ما كان يفترض أن يكون وسيلة حياة تحوّل إلى وسيلة عقاب، تجعل الحركة نفسها عبئًا والوجود نفسه مرهقًا.

ما يجري إذًا ليس أزمة مرور فحسب، بل سياسة بطيئة المفعول لهدفٍ واحد ، تفريغ المكان من الناس عبر إنهاكهم يوميًا، لا بالقوة المباشرة، بل بالتعب والانتظار والإحباط. إنه «تطفيش ناعم» لا يُسمع له صوت، لكنه يترك أثره في كل تفاصيل الحياة: مواعيد ضائعة، فرص عمل فائتة، أسر مفجوعة، وأجيال تتعلّم أن تحسب الزمن بالكيلومترات والحواجز لا بالساعات.

في نهاية كل رحلة، يعود المرء إلى بيته وهو أشبه بمن خاض تجربة إذلال متواصلة ، لم يقطع مجرد طريق، بل خاض اختبارًا يوميًّا لكرامته وحريته. وهنا، يطرح السؤال نفسه بقسوة: هل تكفي الشكاوى أم أن هناك حاجة لسياسات وإجراءات تضمن حرية الحركة والأمن للمواطن داخل وطنه؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...