الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:02 AM
الظهر 12:34 PM
العصر 4:04 PM
المغرب 6:48 PM
العشاء 8:03 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

إسرائيل الإسبرطية: قوة عسكرية آنية وعامل انهيار مستقبلي

الكاتب: نبهان خريشة

في تصريح لافت، شبه بنيامين نتنياهو إسرائيل بمدينة إسبرطة الإغريقية القديمة، في إشارة إلى ما يراه تشابهاً بين قوة عسكرية محاطة بالعزلة من جهة، وحاجة إلى التكيف مع اقتصاد يعتمد على الاكتفاء الذاتي من جهة أخرى. هذا التشبيه ليس مجرد استعارة تاريخية، بل يكشف عن رؤية أيديولوجية عميقة لطبيعة الدولة العبرية كما يتصورها نتنياهو، إذ يرى في إسرائيل دولة محاطة بالأعداء، مجبرة على خوض حروب متكررة، وفي ذات الوقت مضطرة لابتكار نماذج اقتصادية قادرة على تجاوز الحصار والعزلة الدولية.

نموذج الدولة الإسبرطية ، كما يوحي نتنياهو، هو ما يتخيل لإسرائيل في المرحلة الراهنة. فمع تصاعد عزلتها الدولية وتزايد القيود على صناعاتها العسكرية، خصوصاً بعد الانتقادات العالمية لجرائمها في قطاع غزة، يجد نتنياهو نفسه مضطراً إلى إعادة إنتاج عقلية "الاكتفاء الذاتي"، أي بناء اقتصاد قادر على الحياة دون انفتاح واسع على الأسواق العالمية. وهو خطاب يعكس إقراراً ضمنياً بأن إسرائيل تخسر بعض أدوات القوة الناعمة والشرعية السياسية، لتعود إلى ما يشبه "الملاذ العسكري" كمصدر وحيد للقوة.

لكن تشبيه إسرائيل بإسبرطة يطرح إشكاليات عميقة. فإسبرطة رغم قوتها العسكرية انتهت إلى العزلة والانحسار، إذ لم تستطع أن تبني حضارة كتلك التي شيدتها أثينا بالفنون والفلسفة والتجارة. وكانت نهايتها نتيجة طبيعية لاقتصاد هش قائم على الحروب ولغياب رؤية مدنية شاملة. وهذا المصير المحتوم يعكس تناقضاً قد يلاحق إسرائيل: فدولة لا تفهم سوى لغة القوة العسكرية قد تضمن لنفسها استمراراً آنياً، لكنها على المدى الطويل تضع نفسها على طريق التفكك.

منذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها عن قيام دولة إسرائيل عام 1948، ارتسمت ملامحها كدولة عسكرية بالدرجة الأولى، أو بكلمات أخرى "جيش لديه دولة وليست دولة لديها جيش"، أقرب ما تكون إلى نموذج أسبرطة. إسرائيل، رغم ما تملكه من مظاهر دولة حديثة من جامعات ومراكز أبحاث واقتصاد متقدم، لم تخرج يوماً من عباءة الجيش ولا من عقلية الطوارئ المستمرة. إن فكرة أن “الأعداء يحيطون بنا من كل جانب” لم تكن مجرد دعاية عابرة، بل تحولت إلى عقيدة تأسيسية متجذرة في الوعي الجمعي، إلى الحد الذي جعل المجتمع الإسرائيلي كله أشبه بمعسكر دائم الإستنفار.

صحيح أن هذه العقيدة منحت إسرائيل قوة عسكرية هائلة مكّنتها من التفوق في حروبها، ومن بسط هيمنتها على شعوب المنطقة بالقوة، لكنها في المقابل زرعت في داخلها بذور قلق دائم، وجعلت من المستحيل تقريباً بناء حياة طبيعية مستقرة على المدى الطويل. فالمجتمع الذي يعيش على وقع الحرب، ويُربى أفراده منذ الطفولة على انتظار المواجهة، لا يمكنه أن يطور أسلوب حياة متوازن أو علاقات إنسانية سوية أو حتى اقتصاداً منتجاً بعيداً عن آلة الحرب.

إن العقلية العسكرية الإسرائيلية لا تقتصر على الجيش كمؤسسة، بل تتسرب إلى كل تفصيل من تفاصيل الحياة اليومية. الخدمة العسكرية إلزامية للجميع تقريباً، والجيش حاضر في الإعلام، في السياسة، في الاقتصاد، وفي التربية والتعليم. الطفل الإسرائيلي يتشرب منذ سنواته الأولى خطاب الخوف والتهديد، ويُهيأ ذهنياً لأن يكون جندياً قبل أن يكون طالباً أو مهندساً أو فناناً. وهذه التربية تعكس نفسها على سلوك المجتمع: الفرد يُعرّف أولاً باعتباره جندياً محتملاً قبل أن يُعرّف كمواطن له طموحات شخصية.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى متى يمكن لمجتمع أن يتحمل العيش في ظل هذه العقلية العسكرية الصارمة ؟ إلى متى يمكن أن يظل الإنسان في حالة طوارئ دائمة دون أن ينهك أعصابه أو ينهار اقتصاد بلده أو يفقد ثقته بجدوى هذا النمط من الحياة؟ هنا يكمن التناقض الجوهري في التجربة الإسرائيلية: فالقوة التي تمنحها العقيدة العسكرية في لحظة معينة هي نفسها التي تقود إلى التآكل والانهيار على المدى الطويل.

من الناحية النفسية، هناك ما يُعرف بـ"الإرهاق الجمعي"، أي أن المجتمع بأكمله يعيش حالة إنهاك عصبي بسبب الخوف المستمر من الخطر. فالإسرائيلي، حتى وهو يعيش في مدينة عصرية مثل تل أبيب، يدرك أن أي لحظة قد تتحول حياته إلى جحيم بسبب صاروخ يسقط من السماء أو من قبل مهاجم فلسطيني، أو إشتعال جبهة على الحدود. هذه الحالة المزمنة من القلق لا يمكن الاستهانة بتأثيرها: فهي تنتج نسباً مرتفعة من الاضطرابات النفسية، وتضعف الروابط الاجتماعية، وتزيد معدلات الهجرة العكسية حيث يبحث الأفراد عن حياة أكثر أماناً واستقراراً في الغرب.

أما من الناحية الاقتصادية، فإن الدولة التي تعيش على نمط عسكرة المجتمع تدفع ثمناً باهظاً. جزء ضخم من الميزانية يُكرّس للجيش والتسليح على حساب التعليم والصحة والبنية التحتية. صحيح أن إسرائيل نجحت في بناء قطاع تكنولوجي متقدم، لكنه في جانب كبير منه مرتبط بالصناعات العسكرية والأمنية. وهذا الارتباط يجعل الاقتصاد الإسرائيلي رهينة للحروب ومبيعات السلاح، أي أنه اقتصاد غير طبيعي، اقتصاد يعيش على التوترات لا على الإستقرار. على المدى الطويل، مثل هذا الاقتصاد معرض للاهتزاز بمجرد أن تتغير موازين القوى أو تتراجع القدرة على التصدير العسكري.

إن التجارب التاريخية تُظهر أن الدول التي تُبنى على العسكرة المفرطة لا تعيش طويلاً. أسبرطة، التي إستحضرها نتنياهو كنموذج، لم تصمد أمام أثينا وحضارتها الأكثر تنوعاً وثراءً. الاتحاد السوفيتي، رغم تفوقه العسكري الهائل، انهار من الداخل تحت وطأة الاقتصاد العسكري والمجتمع المرهق. وحتى الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، التي اعتمدت على القوة المسلحة، وجدت نفسها عاجزة عن الصمود أمام الحركات الشعبية المدنية التي طالبت بالحرية.

إسرائيل ليست استثناءً من هذه القاعدة. فهي دولة صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، محاطة بمئات الملايين من العرب والمسلمين، وتعتمد بشكل شبه كلي على الدعم الخارجي، خصوصاً من الولايات المتحدة. هذه المعطيات تجعل استمرارها كدولة عسكرية محضة أمراً بالغ الصعوبة. المجتمع الإسرائيلي اليوم يعيش حالة استقطاب داخلي حادة بين تيارات دينية متشددة وتيارات علمانية، وبين شرقيين وغربيين، وبين مهاجرين قدامى وجدد. وهذه الانقسامات تجد وقودها في الضغط النفسي الناتج عن العيش في ظل الخوف المستمر. فحين تكون الموارد محدودة والأعصاب مشدودة، تتفاقم التناقضات الداخلية وتتحول إلى صراعات تصدع الأسس التي قامت إسرائيل عليها.

من المنطقي توقع أن يكون الطابع العسكري المفرط لإسرائيل أحد أبرز أسباب تفككها في المستقبل. فالمجتمع الذي لا يعرف معنى السلام أو الاستقرار سيبحث عنه عاجلاً أم آجلاً، إما بالهجرة أو بالتمرد أو بالتفكك الداخلي. والاقتصاد الذي يقوم على صناعة السلاح لا يمكن أن يزدهر إذا فقدت الحروب جدواها أو تراجعت الأسواق. والسياسة التي تعيش على الخوف من الآخر ستنهار حين يتحول هذا الخوف إلى عبء لا يطاق.

إن إسرائيل تستطيع أن تخوض حروباً كثيرة وأن تحقق انتصارات عسكرية متكررة، لكنها لا تستطيع أن تنتصر على منطق التاريخ. فالتاريخ يعلمنا أن الدول التي تقوم على عسكرة المجتمع بالكامل محكوم عليها بالانهيار، لأنها ببساطة تُنكر الطبيعة الإنسانية التي تتوق إلى الاستقرار والأمن والحرية. والسؤال لم يعد هل ستتفكك إسرائيل أم لا، بل متى وكيف سيحدث ذلك.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...