نقاش جديد ببرنامج "قضايا في المواطنة"
أي مستقبل للتعليم العالي في قطاع غزة؟
خاص - راية
في حلقة جديدة من برنامج «قضايا في المواطنة» الذي يُبث عبر شبكة «رايــة» الإعلامية، طُرح سؤال مركزي يمس جوهر الحاضر والمستقبل الفلسطيني: «أي مستقبل للتعليم العالي في قطاع غزة؟».
الحلقة استضافت ثلاث شخصيات أكاديمية ورسمية، قدّمت تشخيصًا معمّقًا لواقع التعليم العالي في قطاع غزة في ظل الحرب، وتناولت حجم الخسائر، وانعكاساتها المجتمعية، والجهود المبذولة للصمود، وصولًا إلى رؤى التعافي وإعادة البناء.
الضيوف هم: د. محمد شبير نائب رئيس جامعة الأزهر في غزة، ود. رأفت جودة رئيس لجنة إدارة فروع قطاع غزة ومدير جامعة القدس المفتوحة – فرع شمال غزة، وسحر حويطات – مدير دائرة الاختبار الوطني في الهيئة الوطنية للاعتماد والجودة والنوعية لمؤسسات التعليم العالي.
إبادة للتعليم والمعرفة
في مستهل النقاش، أجاب د. محمد شبير عن توصيف ما جرى بحق الجامعات الفلسطينية في غزة، مؤكدًا أن ما حدث لا يمكن وصفه إلا بأنه إبادة حقيقية للتعليم والمعرفة.
وأوضح أن منظومة التعليم في القطاع “أُصيبت في مقتل”، حيث لم يبقَ شيء على حاله كما كان قبل الحرب، بل جرى مسح الكيان التعليمي برمّته عن الوجود، من مدارس وجامعات ومراكز تعليمية.
وأشار شبير إلى أن جامعة الأزهر، على سبيل المثال، فقدت جميع مبانيها ومنقولاتها ومعداتها وأدواتها التعليمية، وهي خسارة لا تختلف كثيرًا عما حلّ ببقية الجامعات الفلسطينية في القطاع، التي تعرضت للتدمير “عن بكرة أبيها”.

وحذّر من أن غياب التعليم يشبه خروج الروح من الجسد، موضحًا أن التعليم هو المدخل الأساسي للنجاة والسلام، وبدونه تتراجع آمال الناس، وتُفتح الأبواب أمام الجهل والتطرف وانهيار منظومة القيم.
وأضاف أن أحد أخطر آثار الحرب غير المباشرة يتمثل في إضعاف الانتماء المجتمعي لدى الشباب، إذ يجد الطالب نفسه بلا جامعة أو أفق تعليمي، ما يخلق فجوة خطيرة بينه وبين المجتمع.
ورغم ذلك، شدد د. شبير على أن جامعة الأزهر وضعت عودة التعليم الوجاهي خطًا أحمر، وبدأت باستئنافه تدريجيًا “بأي ثمن وبأبسط الإمكانيات”، حتى في العتمة والبرد وغياب النوافذ، بهدف إعادة الثقة أولًا، قبل أي شيء آخر.
استهداف ممنهج للبنية الفكرية الفلسطينية
من جانبه، أكد د. رأفت جودة أن استهداف الجامعات والطلبة والكادر الأكاديمي لم يكن عشوائيًا، بل جاء ضمن سياسة ممنهجة لتفكيك البنية الفكرية الفلسطينية.
وبيّن أن الاحتلال لم يكتفِ بقصف المباني، بل استهدف العقول، حيث استشهد أكثر من 250 أكاديميًا، إضافة إلى آلاف الطلبة، فضلًا عن النزوح القسري المتكرر.
وأوضح جودة أن الاحتلال يدرك جيدًا أن التعليم هو السلاح الذي لا يُقهر في يد الشعب الفلسطيني منذ النكبة، وهو السلاح الذي حفظ الهوية والثقافة والفكر، وأبقى القضية الفلسطينية حيّة في وعي الأجيال.
وأضاف أن مقولة “الكبار يموتون والصغار ينسون” سقطت أمام إصرار الفلسطينيين على التعلم ونقل الذاكرة عبر التعليم.

وحول الانعكاسات المستقبلية، أقرّ جودة بأن آثار الحرب ستنعكس سلبًا على سوق العمل ومستويات العنف والبطالة خلال السنوات المقبلة، لكنه شدد على أن الشعب الفلسطيني شعب بدائل، وأن التعليم الإلكتروني شكّل أحد هذه البدائل الأساسية.
وأشار إلى أن جامعة القدس المفتوحة، بحكم خبرتها في التعليم المدمج، كانت من أوائل الجامعات التي أعادت الطلبة إلى الحياة الأكاديمية، رغم التحديات الهائلة، من انقطاع الكهرباء والإنترنت، إلى النزوح وغياب البيئات الآمنة.
أرقام صادمة وخسائر غير مسبوقة
بدورها، قدّمت سحر حويطات قراءة رقمية لحجم الدمار، موضحة أن تقريرًا أُعدّ بالتعاون مع اليونسكو أظهر أن نحو 90% من مؤسسات التعليم العالي في قطاع غزة تعرضت للتدمير، منها 38% دُمرت تدميرًا كاملًا، و62% تدميرًا جزئيًا، وهي نسب مرشحة للارتفاع.
وأشارت إلى استشهاد أكثر من 250 أكاديميًا، من بينهم ثلاثة رؤساء جامعات، مؤكدة أن هذه الخسائر، رغم فداحتها، لم توقف الجهود الرسمية والمؤسسية لإنقاذ العملية التعليمية.
وشددت حويطات على أن التعليم العالي ليس “خدمة”، بل بنية سيادية، وأن الحفاظ عليه أولوية وطنية.
مبادرات إنقاذ التعليم
استعرضت حويطات جملة من المبادرات، أبرزها مبادرة “الطالب الزائر”، التي أتاحت لطلبة غزة التسجيل في جامعات الضفة الغربية لمساقات نظرية.
ووفق الأرقام التي قدمتها:
• سجّل نحو 45 ألف طالب وطالبة
• التحق فعليًا قرابة 18 ألف طالب
• أتمّ بنجاح حوالي 16 ألف طالب مساقاتهم
كما جرى التنسيق مع مؤسسات دولية لتوفير خوادم سحابية، وشرائح إلكترونية، ومختبرات افتراضية للتخصصات العملية، إضافة إلى مبادرات لدعم الأقساط الجامعية، وتسهيل إصدار الشهادات بتعليمات مباشرة من وزير التعليم العالي.

التعليم والحق الدولي المنتهك
وعند الحديث عن الحق في التعليم وفق القانون الدولي الإنساني، أكد د. محمد شبير أن هذا الحق، المكفول دستوريًا ودوليًا، نُسف بالكامل خلال الحرب، بل إن الحق في الحياة نفسه جرى انتهاكه.
وأشار إلى أن اتفاقية جنيف الرابعة، التي يفترض أن تحمي المدنيين والمؤسسات التعليمية، أُفرغت من مضمونها بالكامل في غزة.
وسرد شبير حادثة شخصية، حين تلقى اتصالًا من ضابط إسرائيلي في بداية الحرب، أعقبه قصف مباشر للحرم الجامعي لجامعة الأزهر بعد دقائق، ما أدى إلى مسحه بالكامل عن الوجود.
شلل الحركة والبدائل الممكنة
وحول إغلاق المعابر وشلل الحركة، أوضح د. رأفت جودة أن التعليم الإلكتروني كان العلاج المباشر للحفاظ على تواصل الطلبة مع جامعاتهم.
وأشار إلى أن الإقبال فاق التوقعات، ما عكس حجم الصمود والطموح لدى الطلبة.
كما لفت إلى أن آلاف الطلبة حُرموا من فرص دراسية خارج غزة، سواء في البكالوريوس أو الدراسات العليا، بسبب الإغلاق القسري، مؤكدًا أن الاحتلال سعى إلى منع الطلبة من نقل الرواية الفلسطينية للعالم، لكنه فشل في منعهم من إيصال الحقيقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
أزمة نفسية مركبة
وأكدت سحر حويطات أن ما يواجهه الطلبة وأعضاء هيئة التدريس ليس مجرد أزمة تعليمية، بل أزمة نفسية تعليمية مركبة، نتيجة الصدمات المتكررة، وفقدان الأمان، والنزوح، والإجهاد المزمن.
وشددت على أن إعادة تشغيل التعليم لا تعني فقط فتح قاعات أو منصات، بل تتطلب دمجًا حقيقيًا للدعم النفسي والاجتماعي، وهو ما يجري العمل عليه بالتعاون مع مؤسسات دولية وإقليمية.
العجز المالي وخطر الاستمرار
وتحدث د. محمد شبير عن عجز مالي خانق تعاني منه الجامعات، تفاقم بعد الحرب، موضحًا أن الجامعات الأهلية غير الحكومية تعتمد أساسًا على الرسوم الدراسية، وهي موارد شبه معدومة حاليًا.
وأشار إلى أن العجز في جامعة الأزهر وحدها بلغ قبل الحرب نحو 31 مليون دينار، ما يعيق دفع الرواتب، أو مستحقات المتقاعدين، أو الشروع في أي عملية تعافٍ ذاتي.
تجربة القدس المفتوحة والتعليم المجاني
أما د. رأفت جودة، فقد استعرض تجربة جامعة القدس المفتوحة، التي حملت عبئًا كبيرًا في التعليم المجاني، حيث استفاد نحو 42 ألف طالب من التعليم خلال خمسة فصول متتالية دون تحصيل رسوم.
وبيّن أن الجامعة وفّرت، بجهود ذاتية، أجهزة حاسوب، وألواح طاقة شمسية، وبدائل تقنية، في ظل تدمير المقار والمختبرات والمكتبات.
وأكد جودة أن الجامعة تمر اليوم بمرحلة خطر حقيقي، محذرًا من أن استمرار الأزمة المالية دون حلول جذرية يهدد قدرة الجامعات على البقاء.
تعويض الفاقد التعليمي
وحول تعويض الطلبة، أوضح د. محمد شبير أن جامعة الأزهر استأنفت الدراسة بعد فقدان فصل دراسي كامل، ونجحت في إعادة صياغة التقويم الأكاديمي لتعويض الفاقد دون الإضرار بالفصول اللاحقة.
كما جرى الاستعانة بمتطوعين من جامعات عربية، وتفعيل قنوات تواصل دائمة بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، بما يعزز الفهم والتفاعل الأكاديمي.
الأزمة كفرصة لإعادة التصميم
وفي ختام النقاش، رأت سحر حويطات أن الأزمة، رغم قسوتها، تشكّل فرصة لإعادة تصميم نظام تعليم عالٍ أكثر مرونة وصمودًا، عبر التركيز على التعليم الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وتحديث البرامج بما يخدم إعادة الإعمار والتنمية.
مسؤولية جماعية وخطط تعافٍ
أجمع الضيوف على أن تعافي التعليم العالي في غزة مسؤولية جماعية، تتطلب توحيد جهود الجامعات الفلسطينية، ووزارة التعليم، والمجتمع المحلي، والمؤسسات الدولية.
وأكد د. رأفت جودة الحاجة إلى خطة تعافٍ بثلاث مراحل: التشغيل الطارئ, وإعادة تأهيل المقرات القابلة للصيانة، وإعادة الإعمار الكامل.
وقد كشفت الحلقة عن واقع تعليمي مدمر، لكنه لم يفقد إرادته في الصمود. فبين الركام، لا يزال التعليم العالي في غزة يقاوم، ويتكيّف، ويبحث عن أفق جديد، باعتباره ركيزة للهوية، وشرطًا أساسيًا لبقاء المجتمع الفلسطيني حيًا وقادرًا على النهوض من جديد.
تجدر الإشارة إلى أن "قضايا في المواطنة" هو برنامج اجتماعي تُنتجه مؤسسة REFORM ويبث عبر شبكة راية الإعلامية؛ للإسهام في الوصول إلى نظام حكم إدماجي تعددي مستجيب لاحتياجات المواطنين ومستند إلى قيم المواطنة.
فيما يلي الحلقة كاملة: اضغط هنا

