«الترامبية».. والشرق الأوسط

الكاتب: عبد المجيد سويلم
أصبح واضحاً، أو هكذا يُفترض، أنّ «الترامبية» ليست نبتةً شيطانيةً في سياق واقع وآفاق تطوّر الاقتصاد الأميركي، والذي يُخلي الساحة شيئاً فشيئاً للاقتصاد الصيني، بل إن القدرات العسكرية الأميركية نفسها قد أخلت الساحة للقوة العسكرية الروسية في بعض المجالات الحسّاسة، خصوصاً القدرات الصاروخية التقليدية والنووية على حدّ سواء.
منذ انهيار الاقتصاد العالمي في العام 2008 كان واضحاً لكلّ خبراء الاقتصاد السياسي في العالم، وكذلك لخبراء الاقتصاد وعلوم المالية، أنّ العالم بدأ يدخل في مرحلةٍ جديدة من التوازنات العالمية، تتمثل بصورة واضحة للعيان بانهيار منظومة «النيوليبرالية» انهياراً مروّعاً، اضطرت معه كبريات دول هذه المنظومة إلى «التدخّل» الاقتصادي للدولة، وهو الأمر الذي كان أقرب إلى «المحرّمات» السياسية والاقتصادية، ودفعت «الدولة النيوليبرالية» تريليونات كثيرة لبقاء كبريات الشركات العالمية وحمايتها من الانهيار.
في ذلك الوقت طُرحت أسئلة حسّاسة حول مستقبل الاقتصاد العالمي، على الرغم من كل «التبشير» الذي جرى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بنهاية التاريخ، وبصراع الحضارات.
كانت الديون الأميركية في عام الانهيار حوالى 9 تريليونات دولار، وقد بلغت حتى بداية العام 2023 أكثر من 32 تريليوناً.
لم يقف تدهور الاقتصاد الأميركي عند هذه الحدود، وإنما عاد المجتمع الصناعي العسكري بعد أن ورّط دول في هذا العالم بحروب لا تنتهي، وبعد دخول الولايات المتحدة مباشرة في غزو العراق وأفغانستان، عاد بعد اختراع «الحرب على الإرهاب» ليشعل الحرائق في أمكنة خطرة وحسّاسة، خصوصاً عندما فبرك الانقلاب على الشرعية في أوكرانيا لجرّ روسيا بوساطة وكيلَين رئيسيَّين في جورجيا وأوكرانيا إلى حرب استنزاف مخطّط لها، أملاً بانهيار الدولة الروسية قبل أن يتمكّن فلاديمير بوتين، أو القيادة الروسية الجديدة، من إعادة بناء اقتصاد بلدهم، والولايات المتحدة هي التي اخترعت الحرب من أجل إنهاء حلم إعادة بناء الدولة الروسية.
فشلت الحرب الأميركية، وفشل معها «الغرب» كلّه، وفشلت الحرب الغربية على قطاع غزّة، وعلى لبنان، وربما إيران واليمن على الرغم من الدمار الهائل لهذه الحرب في كلّ من غزّة ولبنان، وعلى الرغم من أنّ كل ما يملكه «الغرب» من قوة عسكرية، ومن موارد مالية، قد تمّ زجّه في أوكرانيا والشرق الأوسط.
«الترامبية» لديها فلسفة عميقة بعد كل هذا الفشل، مفادها أن الاقتصاد الأميركي آيلٌ للسقوط إذا استمرّ على هذا المنوال، وأنّه أصبح مستحيلاً عليه التوفيق بين الدور الأميركي الإمبريالي المعولم وبين «صمود» الاقتصاد الأميركي، وأصبح لزاماً من وجهة نظر «الترامبية» أن تحدث «ثورات» داخلية، وأخرى خارجية لتحقيق هدف واحد هو عودة الاقتصاد الأميركي للنموّ المتسارع على أساس إنتاجي أوّلاً، وفي الأصول الثابتة أوّلاً وقبل كل شيء، وبالتركيز الشديد على تحالف وثيق بين كبار وأغنياء أميركا الذين يحتكرون في الواقع أكبر وأضخم الصناعات الخاصة بالتكنولوجيا المتطوّرة في مجال المعلوماتية والاتصالات، أو ضرورة إدخال وتلاحم منظومات الذكاء الصناعي إلى هذه الصناعات لكي يتمّ «اختصار» الزمن في الصناعات الدفاعية، وليتمّ دعم الركائز الاقتصادية الثابتة إذا ما تمّ «الالتفاف» على الدولار بسبب تصاعد ونموّ التكتّلات الاقتصادية في العالم، خصوصاً «البريكس» أو غيرها.
«الترامبية» لا يمكن لها تحقيق هذه الأهداف «الثورية» بوجود الأشكال القديمة من التصنيع، وبوجود منظومات العولمة المسيطرة على الاقتصاد، وبوجود بيروقراطية الدولة العميقة، أو البنية الاقتصادية العريقة للدولة الأميركية.
لكن اللافت في كلّ هذا أن «الثورة» الصناعية الجديدة التي تقع في صلب الاستهداف «الترامبي»، تحتاج إلى سيطرة معينة على عدد كبير من المعادن النادرة، وعلى معادن أخرى ربما لا تكون نادرة مثل النحاس والليثيوم، ولكنها الأولى والثانية هي خارج نطاق السيطرة الأميركية، وأغلب الظنّ أنّ الصين وروسيا، وبعض الدول الإفريقية، ودولاً أخرى هنا وهناك، تستحوذ على الجزء الأكبر من هذه المعادن.
«الترامبية» تعتبر أنّ العدوّ الأوّل هو الصين، ولكن المنافسة ستظل محصورة بالسياسات «الحمائية» حتى الآن، وإلى أمد متوسّط على الأقلّ، وهي، أي «الترامبية»، لا ترى في روسيا عدوّاً اقتصادياً مباشراً، بل ولا حتى خصماً في المدى المنظور.
وبما أن أميركا جمعت «الغرب» بعد الحرب العالمية الثانية، ودفعت المليارات في مشروع «مارشال» لإعادة بناء الاقتصاد الأوروبي وتشغيله لكي يستوعب منتجاتها، ولتكون أوروبا تابعاً سياسياً واقتصادياً لها، قامت ببناء «حلف الناتو»، وتعهّدت بالإنفاق عليه بحصّةٍ كبيرة، وكانت تسدّد الإنفاق الأوروبي على شكل ديون على البلدان الأوروبية.
«الترامبية» الآن تحاول تفكيك أوروبا، والأرجح أنها ستنهي «الناتو»، لأنّ الخطر الروسي مفتعل ووهمي، ولذلك تفترض «الترامبية» أن من شأن «إنهاء» ما تسمّى المنظومة الغربية في منظوماتها الدفاعية والاقتصادية أن يخدم الاقتصاد الأميركي، وأن يعاد اقتسام العالم بين عدّة مراكز، وألا تكون أميركا هي دولة قيادة العالم، لأن من شأن ذلك أن يلزم الاقتصاد الأميركي بالتزامات تتناقض مع مصالح نموّ هذا الاقتصاد، بل ومع أخطار تعثّره، وربما انهياره.
هذا يعني أننا أمام «ثورات» حقيقية، وانقلابات غير مألوفة، ولهذا تبدو وكأنها جنونية، وغير عقلانية، وغير منطقية.
وهذا يعني تفكيك الكثير الكثير من الأسس التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
في الواقع يتم شيطنة الصين في الثقافة «الترامبية الجديدة»، وتأمل الأخيرة بفصل الصين عن روسيا، وهي محاولة فاشلة سلفاً، وتحاول فرض «وقائع» جديدة، «ثقافة» جديدة، من زاوية «القيم» على المجتمع الأميركي تتناقض مع «قيم» «النيوليبرالية»، ولكنها تفرض «قيم» الاستبداد والاستحواذ والهيمنة، وتجاوز كل ما من شأنه أن يعيق آليات إعادة التحكّم في المجتمع الأميركي بما في ذلك القيم الديمقراطية والتقاليد الأميركية، وهي سياسة تلقى «قبولاً» حتى الآن، لأن المجتمع الأميركي ضاق ذرعاً بقياداته السياسية، و»الترامبية» تسوّق نفسها من خلال إسناد إعلامي هائل من تحالف الأغنياء، ومحتكري وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها هي التي سوف تعيد بناء المجتمع، وبناء الاقتصاد على أسس «جديدة».
الشرق الأوسط الغني من وجهة النظر «الترامبية»، هو أحد أهمّ توجّهاتها على قاعدة الصفقات والحلول، وعلى قاعدة إنهاء الحروب؛ لأن الشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة في العالم الذي يمكن أن يستجلب الحروب التي لا تريدها «الترامبية».
لا تستطيع «الترامبية» أن تصطدم باللوبي الصهيوني الداعم لـ»اليمين» في دولة الاحتلال؛ نظراً لقوته الكبيرة على الرغم من أن هذا اللوبي بالذات يعتبر من المحسوبين على الاقتصاد المعولم بالكامل، وحتى اللوبي الإسرائيلي، وهناك فرق بين «الصهيوني» و»الإسرائيلي» بحدود معيّنة، و»الترامبية» ستؤخر الصدام - إذا كان لا بدّ وأن يقع - إلى أبعد أجل ممكن، لكنها لا تحبّذ على المدى المتوسّط أن تبقى هذه اللوبيات سيفاً مسلّطاً عليها.
لهذا بالذات، فإن «الترامبية»، كما أرى، ستحاول إطفاء الحرائق في الشرق الأوسط، وأن يظلّ دعمها المطلق لدولة الاحتلال خارج نطاق جرّ أميركا لحروب لا ترغب بها.
هذا كلّه لن يقبل به «اليمين الفاشي» في دولة الاحتلال، ولهذا فإن ترامب سيجرجر الإقليم الشرق أوسطي نحو قبول وتقبّل حرائق نتنياهو، وباقي أطراف هذا «اليمين» إلى أن تحين ساعة تغيير الواقع السياسي في الدولة العبرية، وهناك سيأتي ترامب، وكلّ «الترامبيين» ويفرضون الحل السياسي على الإقليم، وهو حل بالتأكيد سيكون على حساب مصالح الشعب الفلسطيني، لكنه سيكون، أيضاً، على حساب برامج «اليمين الفاشي»، وذلك لأن مصالح «الترامبية» في الإقليم أكبر بكثير من المصالح الخاصة بالأخير.