هذا الهدف يجب ألا يتحقق أبدا!
الكاتب: موفق مطر
اعظم خسارة قد يدفعها شعب ما خلال وما بعد أي حرب خارجة عن قرار وإرادة وطنية شاملة ليس البنية الاقتصادية والتحتية والمقدرات المادية، فهذه يمكن تعويضها وإعادة بناء افضل منها خلال فترة زمنية إذا صممت بمنهج عقلاني ورؤية وطنية تتجسد فيها العدالة، أما انكسار النفوس، وتآكل مشاعرها وأحاسيسها، وانهيار قيم المجتمع الانسانية، وأخذ روح ودم الانسان سلعة للتكسب الشخصي والفئوي، وتصنيع كراسي زعامة - حتى لو كانت هلامية - لضمان التسلط على رقاب الناس ومصائرهم من عظام الشهداء، فهذا يتطلب اعادة بناء وتنمية انسانية خلال أجيال شرط استمرار بيئة سلام داخلي ومع المحيط، عمادها رفع مقام ومكانة قيمة وقداسة روح ونفس الانسان بميزان المساواة والعدالة، صغيرا كان او كبيرا في السن، مواطنا أو قائدا، فكل فرد في جنة الوطن شجرة مثمرة تمنح وجوده الخلود في احسن المعاني والصور الحضارية .
ما يحدث في دائرتنا المحلية والعربية خطير جدا قد يمس جوهر وجودنا الانساني إذا لم نتدارك الأمر، فالضمائر تتحجر مع مرور الوقت، ومشاعر وأحاسيس الكثير تتبخر، فيما يفترض أن حرارة الدماء الانسانية المسفوكة تنضجها، وتتكون زبدة الوعي الانساني السابق على أي وعي من نوع آخر، حتى المسمى الوعي الوطني، فهذا يبقى قاصرا وعاجزا ما لم ترفعه المبادئ الانسانية الى السماء لتعانق كلمة الحياة التي كانت في البدء .. فهنا يمجد الموت، وتُغدَر الحياة بشعارات ومصطلحات سامية الأصل والشرعية، لكن البعض سممها عن قصد، والبعض الآخر عن جهل، بتغليفهم النكبة والكارثة بما فيها خسارة الأرواح والدماء الانسانية بيافطات التضحية والصمود والمقاومة والجهاد وغيرها التي تكذبها وقائع الابادة الاستعمارية الصهيونية الدموية، ولنا في هذا المقام هذه العبارة: "تهانينا لكم" مثل حي، فهذه الجملة لمسؤول في جماعة حماس، هرب من قطاع غزة، كتبها ردا على مواطن فلسطيني نعى أبناءه الخمسة في قصف طائرات جيش الاحتلال الاسرائيلي.
أما الفضيحة الكبرى الكاشفة عن عورة خواء مشاعر وأحاسيس الناس الانسانية، فيمكن لأي باحث اكتشافها فوق وتحت ركام غزة المدمرة، حيث تحت كل سقف لم يقوَ فولاذه على مقاومة فولاذ ونار القنابل الخارقة، فانهار محطما منكسرا، ركاما على اجساد رضع وامهاتهم وأطفال وآبائهم، كانت كل روح ترى في جنبات الأعمدة والجدران التي تحمله وطنا صغيرا إن لم يكن بمثابة جنة أمان وسلام، وذكريات وآمال تتجاوز الآفاق بسعتها.
ولا أدري أي قلب وعقل هذا الذي لا يجد تعبيرا حول مشهد أب يبكي اطفاله الضحايا، أو أم تكاد يفطر القلب مشهد احتضانها لوليدها سوى: "إنها ضريبة الحرية" والأفظع قول رأس سياسة حماس في الخارج خالد مشعل: "إنها خسارة تكتيكية" ومقصده حوالي 60 ألف مواطن فلسطيني، ثلثهم اطفال والثلث الثاني نساء، أما أبناء وزوجات ضحايا هذه العقلية العقيمة العبثية، والأحاسيس الجلمودية، فإنهم بمئات الآلاف، الى جانب حوالي مئة ألف جريح، كثير منهم بلا أطراف، أو فقدوا قدرة الابصار.
أما مواطنو مدن وبلدات ومخيمات قطاع غزة، فإن كتاب التاريخ سيسجلون أن منظومة الاحتلال الصهيونية العنصرية قد حققت ارقاما قياسية غير مسبوقة ولا في أي صراع أو حرب في العالم، من حيث رقم مرات النزوح من مكان لآخر، هُيئ لهم أنه آمن، لكنه في الحقيقة أنهم كانوا ينتقلون من حقل ألغام لآخر! فتكتوي اجسادهم، وتحرق النيران ثيابهم وأمتعتهم الرثة، أما المتكئون على أرائكهم في مساكنهم المكيفة، فلا يملكون سوى تمجيد صور مواسير حديدية تنفث دخانا ولهبا وغبارا لتعمية البصائر، تقدمها لهم فضائيات ووسائل اعلام ووسائل تواصل احترفت الخداع والتضليل والتضخيم في كل ما يخص جماعاتها، إلا روح الانسان الفلسطيني فإن قيمتها في نظر هذا المحلل وذاك الخبير لا تساوي اكثر من قيمة الشيك المدفوع اثر كل حلقة من مسلسل تخريب وهدم الشخصية الانسانية الفلسطينية والعربية.. فتطغى صور النار والغبار والدخان على صور مآسي ومعاناة الانسان الفلسطيني، وتشظي اكباد الامهات ودموع الآباء.
نعم نقولها وبكل صراحة وجرأة: نخشى تجريد الفلسطيني والعربي من انسانيته، فهذا هدف تراهن على تحقيقه منظومة الاستعمار والصهيونية الدينية، التي تعرف كيف تتفنن في اصطناع الذرائع، وتتخذ من انزلاق مجتمعاتنا نحو مستنقع الدعاية والمفاهيم المدمرة لكينونة الفرد، أهم سلاح لتبرير حرب الابادة على حاضرنا ونفي مستقبلنا للأبد.. وهنا نؤكد على: يجب ألا يتحقق هذا الهدف أبدا