بعد أن ينقشع غبار الوباء
بقلم: علي فخرو.
بعد فترة لن تطول سينقشع غبار فيروس كورونا، ومعه ستهدأ النفوس وتتراجع المخاوف والمبالغات، وستفتًّش وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي عن موضوع آخر تتسلًّى به، وسيساعدها جيش من الكتًّاب وأصحاب الحضور الشعبوي الديماغوجي، وإعلام الثرثرة، على الانتقال إلى ذلك الموضوع بيسر وافتتان.
ومع ذلك، وكتمرين ذهني على الأقل، دعنا نطرح السؤال التالي: ما الحال النفسي والذهني والسَّلوكي الذي سيكون عليه حال البلايين من الناس العاديين، وهم الذين عانوا أكثر من غيرهم ويلات وفواجع ذلك الوباء الفيروسي؟
لو أننا فتشنا عن الجواب في تاريخ البشرية، لنتعلًّم من دروسه وعبره، لأفحمنا قول الكاتب الأمريكي لورانس دور «بأن التاريخ هو إعادة مكرًّرة لأساليب حياتية خاطئة» أو قول فريدريك هِيل: «كان من الأفضل لو أن الإنسان اهتًّم بتاريخ طبيعته، أكثر من اهتمامه بتاريخ أفعاله»، أو قول غوته «الخطيئة تكتب التاريخ، بينما تبقى الطيبة في صمت مطبق». على ضوء تلك الانطباعات يشعر الباحث في التاريخ عن جواب، بأن دروس تاريخ الحاضر، تاريخ الآن، بكل أهواله وما يفعله في حياة الملايين اليومية، لن تكون دروساً تغييرية للمستقبل المنظور، على عكس ما يقوله البعض من أن التاريخ هو علم التغيًّر.
لعلً ما يفسًّر ذلك هو قول سايرل كونولي الكاتب البريطاني من «أن ذاكرتنا ليست أكثر من بطاقات فهرس، ما إن ينتهي الرجوع إليها حتى تُخلّ وتُفسد ترتيبها سلطة لا يمكن السيطرة عليها».
وفي عالمنا الذي نعيش فيه لن تكون سلطة واحدة فقط، وإنًّما سلطات لا حصر لها ولا عد. من هنا نستطيع التنبؤ بألم وحسرة، وعلى عكس ما يظنه الكثيرون ويرددونه الآن، بأنه ما إن تنقشع الغمة الوبائية الحالية حتى تعود الغالبية الساحقة من البشر العاديين إلى سلوكياتها وعصبياتها وتحزباتها وغمغماتها السابقة ونسيان وجوه وأسماء ما ومن سهل مجيء الوباء الكارثي، ومن أخفق في مواجهته. ستنسى الغالبية العظمى خطابات ومواقف وتبريرات رؤساء الطوائف الدينية والمذهبية، ورؤوس القبائل والعشائر والأفخاذ والعائلات المتنفذة، وقادة الأحزاب الخالدين، ومالكي مؤسسات الثروة الاقتصادية والمالية. وستعود الحياة السياسية الرتيبة، المختطفة من كارتيلات أقلية متفاهمة على توزيع الخيرات والنفوذ والأرض، ومن عليها في ما بينها، ستعود كما كانت، غير قادرة على تخطًّي خلافاتها وصراعاتها، وغير مؤهلة ذهنياً وأخلاقياً للعمل مع بعضها بعضا.
منذ قرون والمفكرون الواعون يكتبون عن شتى الظروف والعوامل التي قادت إلى قابلية جموع البشر لقبول الذل والاستعباد أو الهيمنة من قبل أقليات تمارس كل ذلك باسم الدين، أو الانتماءات التاريخية، أو الخلفية الشرعية الكاذبة، أو غيرها من شعارات. ويستغرب هؤلاء المفكرون مرور القرون على وجود تلك الظاهرة.
كل ما يحدث هو تغير أشكالها وطرق ممارستها وأساليب تزييف شعاراتها، لكن الجوهر يبقى متجذراً في حياة جموع البشر.
لكن شيئاً فشيئاَ تتضح الإجابات على تلك الأسئلة. ليست العلة في ذات الإنسان الطبيعية، ولكنها تكمن في ما يبنيه الإنسان من مؤسسات مجتمعية. إنها مؤسسات، مثل العائلة والدين والمذهب والمدرسة والنادي والحزب والنقابه والحكم وغيرها.
جميع هذه المؤسسات تمتلئ مع مرور الوقت بالعلل في علاقاتها الداخلية، بحيث تصبح غير ديمقراطية وغير محكومة بالقيم الإنسانية، وعلى الأخص قيمة العدالة. وتنتهي، هي الأخرى، مختطفة من قبل أفراد أو أقليات. المشكلة كبيرة وبالغة التعقيد، وهي قد تكوُنت عبر القرون وتجذًّرت في عقول ونفوس وأرواح البشر. ولذلك يخطئ من يعتقد ، بسبب العجز وقلة الحيلة، بأن هذا الفيروس الصغير سيكون مدخلاً لحلًّ إشكاليات الإنسان الكبرى. ومع ذلك فملابسات ونتائج كارثة وباء كورونا يمكن أن تساهم في إمكانية انتقال الملايين إلى الخطوة الأولى في الدرب الطويل، من أجل إصلاح تركيبة وعلاقات وممارسات كل المؤسسات التي خلقها الإنسان، إذ أن إصلاحها سيكون مدخلاً لإصلاح الإنسان نفسه ليقاوم كل أنواع الأوبئة الصحية والمادية والمعنوية في مسيرته الإنسانية المتعثرة.