نداءات باعة الخضار ..عزف بإيقاع عفوي
بيت لحم-راية
مهند الشاعر
بصخب المكان وعبقه وألوانه، طفنا سوق بيت لحم القديم نلملم الحكايا ونتف القصص، ففي كل زاوية من هذا السوق العريق حكاية نسي أن يوثقها التاريخ فتفنن تجاره اليوم في سردها على شكل نداءات وأهازيج يتنافسون فيها بينهم ليس في البيع وحسب وإنما في اختيار الكلمات واللحن واجتذاب الزبائن أو حتى سرقة ابتسامة من المارة.
عن السوق القديم في بيت لحم:
كان موقع السوق الحالي عبارة عن تجمع للعديد من البيوت القديمة الكائنة بين طرفي حارة الفواغرة وحارة النجاجرة، وعلى أثر زلزال عام 1927، تضررت العديد من المباني وبعضها انهدم وأصبح غير قابل للسكن.
في تاريخ 27 أيار 1929 جرى حفل افتتاح السوق الجديد زمن الانتداب البريطاني، بعد أن قامت البلدية بهدم ما تبقى من البيوت القديمة وتنظيف المنطقة.
وبعد فترة تم بناء درجات السوق بين الكنيسة والسوق، ومن ثم جرى توسيع الشارع جنوب كنيسة السريان. وقد عثر إثناء توسيع الشارع على جدار قديم يعتقد بعض الباحثين أنه من بقايا سور بيت لحم القديم الذي ردم في العهد المملوكي.
كان في السوق القديم مكان يدعى خان حلوش، حيث كان الأهالي يستأجرون منه الدواب كالحمير والبغال، لتحميل الحمولات المختلفة من فحم وشعير وغيره.
والخان كان عبارة عن بيت قديم يقع على يمين قوس الشاعر، وكان يدير الخان عائلة حلوش الفاغوري. وتم اعادة ترميم وتجديد السوق إثناء مشروع بيت لحم 2000 تحضيراً للألفية الثانية.
اكتشف مؤخراً أربعة آبار، ثلاثة في السوق الأعلى وواحد في السوق الأرضي
نداءات الباعة في السوق: حيلة أم فن
لكن تاريخ السوق وعراقته ليست أول ما يلفت انتباه الزائر، فنداءات التجار، لا سيما باعة الخضار والفاكهة، تزيد من إثارة المكان وتأبى إلا أن تختطف ابتسامة أو ضحكة من على وجوه المارة من زبائن وزوار.
وخلال تنقلنا في السوق بين المحال والبسطات، وبينما تختلط ألوان الفاكهة برائحتها النفاذة، أصر العم “أبو يوسف” على أن يجد لنفسه موقعاً في هذا المشهد اليومي وليفرض تواجده في المكان لدرجة افتقاده إن غاب كما يقول أحد المارة.
ويعتمد أبو يوسف، وهو رجل خمسيني، أسلوب تلحين نداءاته وغنائها جامعاً بين السجع والكوميديا ما يجتذب الزبائن أكثر و”يجلبهم نحو البسطة مبتسمين ولا يجادلون في السعر كثيرا” كما يقول أبو يوسف.
وهناك منطلقات أخرى للنداء على الفواكه, فتتركز نداءات الباعة على الربط بين الفاكهة ومكان إنتاجها الأنسب, فمثلا من النداءات المتداولة في سوق بيت لحم " خليلي يا عنب, ريحاوي يا موز, يافاوي يا بردقان".
وفي السوق القديم أيضاً، وعلى بعد خطوات قليلة من العم أبو يوسف ومرحه، يجلس موسى أبو دية خلف بسطة خضار وفاكهة تضج بألوانها وعبقها،ويبدو أن لهذه الخلطة السحرية تأثير من نوع مختلف على صاحبها الذي اختار الارتجال للترويج لبضاعته مثل "نعنع بقدونيس جرجير...شوف الصحة كيف بتصير", "ترمبو الخيار".
ويروي أبو دية الذي تجاوز الستين بخمس سنوات ونيف،, أن بيع الخضار والفواكه في السوق باتت جزء من حياته اليومية منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً. فطريقته بالنداء على بضاعته بمثابة علامة تدل عليه, وأصبح مألوفا ومعروفا لمعظم التجار والمرتادين على السوق, وحبه لعمله هو ما دفعه للاستمرار.
فلكلور شعبي وبلاغة في الإرتجال
محمد الهريمي (62 عاما), يتفنن بالمناداة بالصوت العالي وبالكلام المسجع بعبارات تلفت انتباه المارة وتحثهم على الشراء، سواء من خلال الإشادة بجودة خضراواته أو بسعرها الرخيص, وكل ذلك يكون بشكل ارتجالي وعفوي, غير أن الناس تحب العبارات ويحفظونها وتدخل الى قلوبهم ومسامعهم فتكون حافزاً ودافعاً لهم لشراء الخضار أو الفاكهة المذكورة فيها, ومن أشهر نداءاته " على السكين يا بطيخ, حمرا وجامدة يا بندورة, أحمر يا ريان, أسود يا باذنجان, يا عيني على الدراق, تفاح يا حبيب وما تروح على الطبيب" وغيرها الكثير.
ويرى فارس الهريمي (74عاما) أن هذه النداءات من الفلكلور الشعبي وأيضا الزجل, وأنه يجب المحافظة على هذا التراث من الزوال, ويقول بأن هذا الاسلوب المرتجل في النداء على الخضار والفواكه له جذور تاريخية وتراثية تضفي روح الفكاهة أثناء العمل.
نداءات الباعة: جزء من التراث الشعبي والتأريخ الشفوي:
ويرى البروفيسور شريف كناعنة، مؤرخ التراث الشعبي الفلسطيني في جامعة بيرزيت، ان نداءات الباعة فن يمتاز به الشرق العربي بشكل عام، وهو فن شعبي أصيل في وجدان الشعب الفلسطيني، وأصبحت جزءا من حضارته وثرائه، ومن الخطأ النظر لها كوسيلة للترويج للبضائع فحسب فهي تعكس أيضاً مزاج المواطن العادي وتوثق لمراحل تاريخية مهمة وإن جاءت على هيئة زجل أو نداء أو أغنية.
ويروي كناعنة جزءا من تاريخ هذه الظاهرة والتي تمتد “لما قبل النكبة الفلسطينية الأولى” حيث كان الباعة المتجولون يبيعون بضائعهم على الحمير، ويضعون البضاعة في سحارتين- اي صندوقين من الخشب معلقين كالخرج على جانبي الحمار.
ويسمى الصندوق الأصغر من السحارة "بكسة"، ويجلس البائع على ظهر الحمار ويستخدم ميزان نحاسي يعلق باليد، وعيارات من الحجارة، وينادي على بضاعته التي كانت تتكون من الخضار والفواكه.
ففي فصل الربيع والصيف كانت تباع البندورة والخيار والفاصولية والبامية والبازيلا والملوخية والكوسا والباذنجان واليقطينة والعنب والتين والصبر. وفي فصل الخريف والشتاء يباع الملفوف والزهرة والبقدونس والفجل والخس والسبانخ والجوافا والبرتقال.
تطور بعدها البيع المتجول على عربات خشبية تسير بثلاث عجلات يدفعها البائع أمامه، ويوضع عليها فرش من الخشب، تعرض عليه البضاعة. ويتركزون بكثرة في وسط البلد في المناطق المزدحمة، حول منطقة سوق الخضار المركزي.
ويعرض الباعة بضاعتهم بطريقة مثيرة للانتباه ولافتة للانظار، فالعرض في نظرهم مهم كعملية النداء. يقوم بائع الفاكهة والخضار بترتيب بضاعته بشكل هرمي ملفت للنظر. ويقوم بائع البطيخ “بسطح” بطيخة حمراء ووضعها على كومة البطيخ، كما يضعون الثمار ذات الحب الكبير على وجه الكومة لجذب انظار المشترين. ان هذا العرض الجميل ينطلق من المثل الشعبي القائل: "العين الّلي بتوكل قبل الثم” كما يقول كناعنة.