حسناء.. وللحلم أغنية وبقية
خاص-راية
حسين أبو عواد
ما يؤلم بالنسبة لحسناء، ابنة الستة عشر عاماً، ليس ما هي عليه، وإنما ما لا تستطيع أن تكونه، فهذه الصغيرة لم تستطع يوماً أن تكون كباقي الأطفال وقد ولدت مع إعاقة بصرية حرمتها من تمييز الملامح والألوان والأشكال، كما لم تكن مثلهم أيضاً بحجم أحلامها ورغبتها الجامحة بالتميز.
من قال أن فاقد الشيء لا يعطيه لم يعرف حسناء بعد، فرغم فقدانها لنعمة البصر، إلا أنها تمنح من حولها أضعافاً مضاعفة من القدرة على الحلم والرغبة في التميز..أمور قد يعجز أمامها المبصرون،لكأنها تعوض من حولها كل ما فقدت.
وعلى مقعد الدراسة تجلس حسناء متربصة بأحلامها خشية أن تفلت من بين أناملها التي تنتقل من حرف لآخر، ومن كلمة إلى أخرى في كراستها المكتوبة بلغة بريل، كأنها تعزف على آلة البيانو لحن شغفها للغد البعيد، تسمع شرح معلمتها بتمعن، تجيب على الأسئلة، تدون الملاحظات، وما أن تطلق مدرسة عمر بن عبد العزيز الثانوية في طولكرم جرس الإنصراف، حتى تسرع صديقتها لجمع أغراضها متجهًة إلى مقعد حسناء، لتكون دليلها في الزحمة، وبصرها في تلك الظلمة.
لم تكن حركة أصابعها على تلك الورقة عادية، بل كان لها إيقاعًا ورقصة، علمنا من خلالها فيما بعد أن حسناء تعزف البيانو فعلا، وباحترافية عالية، فعزفت فور وصولها المنزل، لحن الاغنية التراثية "يما مويل الهوى"، وصدح صوتها الذي نضج قبل أن تنضج هي، ليأخذك عبر تلك الأوتار الصوتية إلى الجنة التي لا يراها، سوى حسناء بأعينها النائمة.
كان عليها أن تختار الانتقال من مدرسة خاصة بذوي الإعاقة، إلى مدرسة أخرى، كي تستطيع تحقيق رغبتها بدراسة اللغة الانجليزية والترجمة، وبالفعل، لم تعد التفكير مرتين، دخلت مدرستها الجديدة وأثبتت أن ليس للمثابر معايير قياسية، ولا يعرف التفوق مفاهيم العنصرية.
إن فقدت حسناء البصر، فلم تفقد البصيرة، فندت تلك الصغيرة الطموحة مقولة "الحب أعمى"، وجعلته مبصر على حالتها الاستثنائية، فاستطاعت لفت الأنظار نحوها بين زميلاتها ومعلماتها في المدرسة، إذ تقول المعلمة مي سليمان مسؤولة التعليم الجامع "إن لحسناء أسلوب خاص يجعلك تنجذب نحوها.. تمتلك مواهب متعدده تجعلها قريبة من القلب".
نفت حسناء أيضًا، أن لغة العيون أبلغ من الكلام، فعفويتها في وصف الحياة، وانتقاءها لتلك الكلمات، ونبرة صوتها التي تعلو حين تتحمس وتنخفض عندما تخجل، تجعلك تقف أمامها متيقظًا، لتباغتك فجأة بكلمات كردية، تعلمك من خلالها بأنها تجيد اللغة الكردية، كما الانجليزية، وتأمل بتعلم العبرية والألمانية.
لم تلتحق بأي معهد تعليم لغات، ولم تتلقَ تعليمًا مدرسيًا بالكردية، بجهود شخصية أتقنت اللغتين عبر التلفاز وأجهزة كاسيت لتعليم اللغات.
من العجيب أيضًا، كيف لتلك الفتاة، المجتهدة في المدرسة، والمثابرة في تعلم اللغات، أن تجد وقتًا لحفظ القرآن، فحسناء أتمت حفظ ستة أجزاء من القرآن الكريم، أيضا عبر الاستماع لجهاز الكاسيت وقراءته مطبوعًا بطريقة بريل.
الابنة البكر لعائلة من خمسة أفراد، العائلة التي جعلت من حسناء حالة استثنائية، حملتها والدتها في المهد، داعبت أناملها لتصبح عازفة يوما ما، همست في أذنها حباً أصبح اليوم تألقًا، تقول حسناء في العائلة: " لم اشعر باي نقص طوال حياتي، والدي عمل على توفير كل احتياجاتي رغم ظروفنا المعيشية الصعبة".