الكنز الأسود
رام الله- رايـة:
مجدولين زكارنـة-
على بعد 18 كيلو مترا من مدينة جنين تقع أرض "الكنز الاسود" والحديث هنا عن الفحم الذي تعبق رائحته بالمكان ويصرح عن وجوده بدخان أسود يبدو للناظر من بعيد.
كان الرجل ذو الملامح القاسية يعتلي هرما من الخشب فيبدو وكأن الشمس تلتصق به من شدة اشعاعها، كان يرصّ بإنتظام كل ما وقعت عليه يداه من خشب.
وما ان نزل اليّنا ارضاً حتى كانت أقدامنا قد انغرست في اكوام من التراب الاسود الذي يفترش عدة كيلومترات من الاراضي، جميعها خُصصت لصناعة الفحم.. "كنزنا الاسود" في منطقة زبدة الملتصقة ببلدة يعبد.
وعلى الرغم من السواد الذي يسيطر على كل ما نراه في هذا المكان وضيق التنفس الذي شعرنا جميعاً به بعد دقيقة واحدة من وصولنا، الا ان العاملين هنا تبدو لهم المهمة أسهل بكثير إذ تعتمد على التعود على حد قولهم، الا ان بعض كلماتهم وشت بالسبب الذي دفعهم للعمل في المفاحم ، وان رضاهم الذي اظهروه لنا لم يسقط عليهم من السماء، انما كان مجرد هرب من شبح البطالة الذي يطارد أحلام الشباب الفلسطيني.
قشٌ ورمل اسود وخشب وشادر بلاستيك اضافة للنار كل ما يحتاجونة لصناعة الفحم.. أما اذا اردنا ترتيب الخطوات فأولها رصّ الاخشاب على شكل هرمي ومن ثم غمرها بالقش الأصفر ثم الرمل الاسود انتهاء باشعال النار من راس الهرم وتغطيته بشادر بلاستيكي.
بعد 15 يوم من اشتعال النيران داخل الهرم يخرج لنا المارد من المصباح ليقدم لنا "الكنز الاسود" لتبدأ مهمة تكسيره الى قطع صغيره و تغليفه ليصل الى التجار .
وبلغة الارقام فإن منطقة يعبد تنتج قرابة 10 الاف طن فحم سنويا، ويحوي الهرم "المشحرة " قرابة 20 طن من الخشب يتحول الى 4 طن فحم ويباع بـ32 شيكل للتاجر ليصل الى المستهلك بـ 35 شيكل تقريبا للكيس الواحد.
العمل هنا يمتد لـ 24 ساعة بنظام المناوبة، مدة النوبة الواحدة 9 ساعات تبدأ من السابعة صباحا، ويتلقى العامل المبتدئ شهريا 2500 شيكل وكلما ازدادت خبرته ارتفع أجره ليصل الى 7000 شيكل واكثر.
عملية جرف التراب بـ"الطورية" ووضعها على المشحرة غير سهلة ابدا، الهواء يُعيد ذرات الرمل الى وجوه العمال شاقاً طريقه الى رئاهم، يقول احد العمال:" صحتي تمام ومش متضايق من شغلي دخلي منيح ومش مستعد اشتغل بإسرائيل واشوف الذل اشرفلي اشتغل في بلدي وارتاح اخر النهار بفرشتي".
مشهد التناقض هنا جليّ، فانتاج الفحم الأسود مهمة صعبة لكن استخدامه مقتصر في معظم الأحيان على لحظات حلوة فتراه رفيق الارجيلة سيدة السهرات الصيفية وتجده يتسلل اليك عبر رائحة اللحم المشوي في صباحات الاعياد التي لا يروق لها الا الفحم المصنوع من خشب اشجار الحمضيات التي تاتي في معظم الاحيان بطرق غير شرعية من داخل الخط الاخضر الى يعبد.
منطقة المفاحم التي زرناها لم تكن موقع عملهم الاول انما اضطروا الى الانتقال اليها بعدما طردهم مستوطنو التجمعات الاستيطانية التي تلتهم مئات الدونمات الزراعية ليعبد وقراها.
وعلى الرغم من نقل العمل الى منطقة زبدة الا ان العاملين لم يفلحوا في الخلاص من "إيغيل" الذي يستفزه وجود "الكنز الأسود" المعروف بجودته عالمياً.
كان "ايغيل" الضابط الاسرائيلي المسؤول فيما تسمى بـ"سلطة الاراضي الاسرائيلية" - يجول حول المفاحم ويبحث عن سبب لقطع الطريق امام استمرار الصناعة الفلسطينية التي تشغل معظم شباب قرى يعبد. يقول عامل اربعيني:" بطرف "بُسطاره" فرك التراب الاسود الممدود في كل مكان وقال "هذا يلوث أجواءنا اذا لم توقفوا العمل ستدفعون غرامات كبيرة".
شعرنا بالخطر.." يبدو اننا لن ننجوا من مطاردات الاحتلال ومحاربتنا في مورد رزقنا" يقول أحد العمال.
مؤسسات كثيرة زارت المفاحم ونفذت أبحاث على العاملين و فحوصات طبية لقياس مدى تأثّر العاملين من بيئة العمل وافادت ان الأجواء لم تؤثر على صحة العمال، بعضها الآخر قدم بيئة عمل يعتبرها اقل ضررا من الهرم "المشحرة" عبر وضع "فلاتر" للدخان المتصاعد من اعلى الهرم.. أبو محمد أحد العاملين قيّم التجربة بأنها ناجحة ولكنها غير كافية... وأضاف: "جلبت لنا مؤسسة عالمية افران لصناعة الفحم دون عناء خلال 24 ساعة لكن الفحم خرج بجودة رديئة فأوففنا استخدام الافران وعدنا الى "المشحرة".
من المؤكد ان "ايغل" سيعود ولكني اظن ان نزعته الاحتلالية لن تقوى على تحطيم عمل الفحّامين المغمس دوما بالأمل.