انتبه ... أمامك حاجز !
الخليل- رايــة:
طه أبو حسين-
الحاجز في اللغة بمعنى الفاصل بين شيئين، شخصين، ويرادفها ساتر، سدّ، عائق، قاطع وغيرها من المفاهيم التي توصل فكرة التقطيع والحجب وتمزيق الشيء إلى أشياء وأشياء.
أما في رحلة البحث عن معنى حاجز في المفهوم الإسرائيلي على السطر الفلسطيني، فالمعاني أكثر من أن تسرد وتوثق، مع أنها في ظاهر الأمر تقرأ على أنها مجرد حواجز توضع هنا وهناك، تتشكل من بضعة جنود إسرائيليين مدججين بالسلاح ومحصنين بالقناصة وجميعهم لا يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة، يضعون الحاجز المتحرك والمعروف "بالمسامير" على أحد المداخل الرئيسة والإستراتيجية، فيعملوا على قطع الطريق أمام المركبات والمارة بشكل كامل، أو أدنى في حال إخضاع تلك المركبات ومن فيها إلى جانب المشاة للتفتيش والتدقيق في بطاقاتهم الشخصية والسماح بالعبور لبعضهم ومنع البعض الآخر، هذا هو التفسير السطحي لمفهوم الحاجز.
التقصي رحلة صعبة، وأحيانا تدرك الثمار وبأخرى تعدم، وأكثر المعاني دقة تلك التي تتجسد بأبسط الكلمات ونعتبرها (عادية)، مع أنها خلاصة المعنى وكثافته اللغوية حتى وإن كانت بلهجة عامية.
النماذج كثيرة للحواجز الإسرائيلية في محافظة الخليل، لعل أهمها المدخل الجنوبي الوحيد للمدينة، والذي يربط يطا بالخليل، وذلك الحاجز قبل أن يكون كذلك، كان مغلقاً بشكل كامل لفترة تتجاوز ثلاثة شهور على أوقات متفرقة، وذلك انسدالاً لمبدأ الاحتلال بتنفيذ العقوبات الجماعية بحق أبناء المحافظة بمزاعم منع العمليات التي تستهدف جيشه ومستوطنيه.
المدخل الجنوبي للخليل، والمعروف بسدة الفحص، هذا المفهوم المتعارف عليه أخذ صفته بعد إغلاق هذا المدخل لمدة ثمانية سنوات وأكثر دفعة واحدة بداية انتفاضة الأقصى الثانية، وأعيد فتحها عام 2008، غير أن مسماها لم يتغير بعد الفتح، فالمدة الزمنية الطويلة جعلت اقتران مفهوم السدة بهذا المدخل واقعا راسخاً في العقل الباطن لكل مواطن يمرّ عبره.
محمد الطالب الجامعي يقول "سدة الفحص، مفتوحة منذ عشرين يوماً، غير أن حاجزاً إسرائيليا ينصب عوارضه بصورة شبه يومية، ويتعمد جيش الاحتلال وضع هذا الحاجز في الساعات الصباحية، أي لحظة انطلاق الموظفين والعمال والطلبة لأعمالهم وجامعاتهم، إضافة لنصبه في ساعة ما بين العصر والمغرب، أي لحظة مغادرة هؤلاء، وعلى أقل تقدير يخضعوا لمذلة واهانة نصف ساعة تصل بأحيان ليست بالقليلة لساعتين أو ما يزيد.
عند هذه المحطة يبدأ مفهوم الحاجز يتضح أكثر فأكثر، وهنا قررنا رصد تلك المعاني التي تقال في حينها ومن مكان تواجدنا في سيارة بحمولة سبع ركاب إضافة للسائق والذي قال :" اففف، رجعت حليمة لعادتها القديمة، أقل شيء نحتاج لساعتين للدخول ومثلهما للخروج، لو سمحتوا تفضلوا بالنزول هنا ...".
هنا يتكرر المشهد، حالما يقول السائق ذلك يعمّ الصمت، وضجيجه يكون صاخباً، سرعان ما يتم قطعة بصوت أحد الركاب "وأين تريدنا أن نذهب، لا توجد أي سيارة في الاتجاه الآخر، وأنا لن أنزل".
السائق ليس ملاماً، والركاب كذلك، فهناك عشرات المركبات وأحيانا يتجاوزوا المئات تصطف وراء بعضها حتى يحين دورها بالمرور، فعلى أقل تقدير في كلّ ساعة يعرقل جيش الاحتلال حركة ألف مواطن أو ما يزيد، وتلك المركبات ساعة مرورها عبر الحاجز تكاد لا تستطيع منافسة السلحفاة في سرعتها.
تلك شرارة، ثم يبدأ الركاب الآخرين بالتعبير عن غضبهم من قول السائق، وينسى الجميع أنهم ضحية الحاجز الذي أوجده الاحتلال، وكثيراً ما تعلو الأصوات والسب والشتم والقذف، حتى يخرج رجلاً حليماً أو امرأة حكيمة فتخرج الجميع من هذه المتاهة بقول " استغفروا ربكم، والله كلنا ضحية، حسبي الله على الاحتلال".
يعم الصمت مجدداً ويبدو الجميع أخرسا كالمركبة التي يستقلونها، إلى أن نطق الأربعيني زياد بكلمات عرجاء من قلة حيلته على تغيير الواقع: " أكره هذه المنطقة، ويا ليتني أستطيع الرحيل منها، كرهتها وكرهت هذه الحياة لأجلها".
يضيف آخر بغضب أكبر: "الله يقطع هذه المنطقة، نحن هنا مغضوب علينا، هنا لا يعيش إلا من سخطه الله، فهنا يعذب الله من يريد عقابه".
تتداخل الكلمات والأمنيات السوداء وجميعها تصب في منحى كره المنطقة التي تتجاوز هذا الحاجز، وقالت إحداهن :" لا أدري ماذا فعلنا بحياتنا حتى نلقى ما نلقاه، لا أذكر أننا أغضبنا الله أو أي أحد، والمصيبة لا أحد يهتم بنا أو يقلق بعذابنا".
أما تلك المرأة المثابرة فهمست لمن تجاورها: "هذا التأخير سيكون حجة لزوجي حتى أترك عملي، سيقول ألا يكفي العمل، وتتأخرين كثيراً، الأولاد من يهتم بهم، هل يبقوا في الشارع، والمنزل من له، بالتأكيد سأضطر لسماع هذه السيمفونية، وبصراحة بأحيان كثيرة أجده محقاً، فانا أنزل من السادسة صباحا، ولا أدخل البيت إلا عند الثامنة مساء أو بعدها، وهناك أقل معدل ثلاث إلى أربع ساعات ما بين مواصلات وتعطيل على الحواجز، حقاً مللت الحياة".
تستمر التذمرات، والتكهنات، والمسبات، وغيرها، حتى أن الهواتف النقالة لا تكف عن رنينها، ويفهم من الإجابات أن الأسئلة أين أنت، ولماذا كل هذا التأخير، الأولاد جاعوا، عندنا ضيوف".
وكلما رنّ هاتف، زادت حدة الغضب، واحمرت الوجوه، وتعالت التنهدات وبأحيان كثيرة اللعنات، سواء على الاحتلال أو المنطقة التي يعيشون فيها أو حتى الحياة بشكل كامل. والأدهى من ذلك أن كثير المشاكل تندلع على الجوال بسبب الغضب من حالة الانتظار.
بعد كل هذه المداولات وتبادل أطراف الحديث، تصل المركبة للحاجز، عادة يكون هناك أربع جنود، أحدهم بعيد عن الثلاثة قرابة عشرين متراً، يتمترس على المكعبات الإسمنتية، مستعداً لإطلاق النار على أي حركة غريبة، لا يرى منه، غير عينه المغمضة، وإصبع يده الضاغط على الزناد.
أما الثلاثة الآخرين، أحدهم يتحصن خلص مكعب إسمنتي ناقص ضلع، لحماية الاثنين من أي خطر، والاثنين الآخرين، أحدهما بملامح أثيوبية والآخر روسية أو أمريكية، وبأحيان ليست بالقليلة بملامح عربية، وإن كان الأخير، يكون أكثر عنصرية وظلما وتبجحا واستخداما لأصناف الذل.
ما إن تصل المركبة للحاجز، بكل بساطة يأمر جندي الاحتلال الذي يصوّب بندقيته باتجاه السائق البطاقات الشخصية، ينظر إليها ويعيدها، ويسأل سؤاله الاعتيادي المستفز " هل معك شيء؟" فينفي السائق، ثم يعود الجندي ويبحلق بوجه الجميع، وأحيانا يفترس وجوه الرجال أو يغزو وجوه النساء، والصمت الظاهر بالتزامن مع البركان الباطني سيّد الموقف.
حالما انتهى جندي الاحتلال من ذلك، يأمر السائق بالمرور ليبدأ المسلسل المتكرر حلقاته بحق مركبة أخرى، وتمر الأولى وتبدأ اللعنات والاحتساب مجددا بنغمة أعلى، ثم يصل كل مواطن لمنزله وهو مجهد من طول الانتظار، إلى جانب كثير الإهانة والذل اللذان رافقهم، والأهم الغضب الحانق الذي ملأ قلبه، وبكثير الأحيان يظهر جلياً بالأمور الاجتماعية.
حاجز مدخل الخليل الجنوبي نموذج يعكس واقع كافة الحواجز التي تنصب على جميع مداخل المحافظة ومحافظات الوطن، وتلك الحوارات الصعبة الأكثر قساوة من منتجات حواجز الاحتلال، والتي لا يدفع ضريبتها إلا المواطن على كافة أصعدة حياته.

