مات الكبار .. ولم ينس الصغار لفتا المهجرة
القس المحتلة- رايــة:
فداء رويضي-
الكبار الذين حملوا مفاتيح بيوتهم والقليل من حاجيتهم ظنا منهم بأنهم سيعودون بعد أيام، ماتوا وورثوا المفتاح، هم الذين ساروا من قراهم الى أماكن لا تشبههم، استقروا بها، باتوا في العراء، ثم في الخيمة، وبين ليلة وضحاها تحولت الخيمة الى غرف من طوب، هم عانوا المرارة في مخيمات اللجوء، ماتوا وورثوا الحكايا التي سيرويها صغار قرية لفتا المهجرة، لينفوا مقولة جولدا ماير رئيسة وزراء حكومة الإحتلال:" كبارهم سيموتون، وصغارهم سينسون".
قابلت "رايــة" شاب وفتاتين من قرية لفتا، لم يولدوا ويترعرعوا فيها، لكنها باتت جزءا من ذكريات لم يعيشوها، بعد أن سمعوا عنها من أجدادهم.
حياة مؤقتة
فراس حمد "26 عاما" شاب من قرية لفتا، يعيش اليوم في شعفاط، تخرج من جامعة القدس بتخصص صحافة وإعلام ويعمل اليوم في مجال تخصصه، عند ولادته كان جده محمود متوفيا، وعندما ولد والده كانوا قد هجروا من لفتا، فوالده رجا هو أصغر إخوته، بفترة النكبة لجأ جد فراس الى شعفاط عند أخواله، سكن بداية في منازلهم، ثم اشترى أرضا وبيتا، يقول فراس لـ"رايـة": "سمعت عن قريتنا من أعمامي الكبار ومن كبار السن في العائلة، كذلك جدي والد أمي هو أيضا من قرية لفتا".
كان فراس يستمع لحكايا القرية من جدته، تقول له عن مساحة أراضيها الشاسعة، وعن الأشجار التي زرعتها في محيط منزلهم، وعن عين الماء في لفتا الذي كان يسقي أهل القرية والقرى المجاورة، وبحسب ما سمعه فراس من جدته أنهم كانوا يقولون إن لفتا بوابة القدس، يمر منها الناس الذين يقصدون القدس لذلك كانت فيها التجارة عامرة، فكانوا يعيشون بما يشبه الإكتفاء الذاتي، تكفيهم مياه العين والزراعة، ولم يتوقف عملهم على التجارة والزراعة بل اشتهروا أيضا بصناعة الحجر "البناء"، يقول فراس: "لذلك نرى بيوت لفتا مبنية بطريقة فنية، وكذلك بنوا بيوت أهل المدينة "القدس"، كما هو الحال مع أهل جدتي الذين ورثوا هذه الصنعة لأبنئهم وحتى اليوم يعملون "بالبناء" بالرغم من أنهم متفرقين فمنهم من هجر الى الضفة الغربية ومنهم الى غزة، وأخرون الى الأردن".
جد فراس كان مزارعا وراعي أغنام، بيته الى اليوم في القرية المهجورة لم يهدم ولم يسكنه المستوطنون كما حدث بالبيوت الأخرى، اصبح بيتا قديما فارغا، يقول فراس: "لا أزوره كثيرا، لأنه من الصعب أن يرى الإنسان بيته أمامه وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يسكنه، لكننا في نهاية المطاف لا ولن ننسى قريتنا وكل ما يحدث مؤقت حتى يزول الإحتلال، فبعد النكبة أصبحت الحياة صعبة، حاولوا التأقلم لكن لا أحد منهم ارتاح يوما، جميعهم يعلمون جيدا أنها حياة مؤقتة، أمانة، وميراث يورثه الأب لأولاده".
"سرق قمرنا"
صفاء عودة "24 عاما" فتاة من قرية لفتا، تعيش اليوم في رام الله، درست علاج طبيعي وتعمل في هذا المجال، كانت تجلس مع جدتها وجدها الذين يعودون للماضي في لحظات يحنون لأيام راحة البال والمحبة بين الناس، تهجر جدها من لفتا حين كان يبلغ من العمر 20 عاما، تمت خطوبة جدها وجدتها في لفتا لكنهم لم يتزوجوا حينها، لأنهم في ذلك الوقت كانوا يتزوجون على ضوء القمر، عندما يكتمل ليصبح بدرا، فيحجز العرسان موعدا قبل شهر من ذلك، تقول صفاء:"جدتي وجدي حجزوا ذلك الشهر لهم، لكن أحدهم تزوج مكانهم في اليوم الذي حجزوه، وبعد تهجيرهم تجوزوا في رام الله والى اليوم يقولون "لقد سرق قمرنا".
درس جد صفاء حتى الصف الرابع في مدرسة لفتا، وعندما رأى عمه يصيد العصافير "بالمغيط" طلب منه أن يجرب ذلك لكنه رفض، وفي اليوم التالي ترك المدرسة ليشتري "مغيط" يقول لهم اليوم: "لقد كنت جاهلا"، مدرسة لفتا كانت بلفتا الفوقة، أما في لفتا التحتة فكان هناك مسجد ومقام سيف الدين، ومعصرة زيتون، وشجرة زعرور كبيرة، وذلك كما وصفها جد صفاء في إحدى جلساته معها.
بيت جد صفاء كان مكونا من ثلاثة طوابق، الطابق الأول كان مخصصا للأغنام، وكان لديه ثلاثة أبناء ابراهيم ومحمد وحسن عودة الذي كان يذهب الى الطابق الأخير ويؤذن، ثم يقول لهم: "ها قد نبهتكم على الصلاة، والذي لا يصلي يذهب الى النار"، وكان في لفتا عائلة واحدة تمتلك خيلا، وعائلتين تمتلك سيارة.
حكاية لجدها ترويها صفاء: "قال لنا أنهم ذات مرة جعلوه حارسا على القرية، وأعطوه بارودة لدار حمد، وقالوا له "دير بالك" وذهبوا للنوم، كان صغيرا لا يفقه شيئا، رأى شاحنة مرت من شارع يافا فأطلق الرصاص، خرج أهل القرية قالوا له ما الذي يحدث؟ فقال لهم أن شاحنة قد توقفت، بقيوا جميعهم مستيقظين وخلد هو الى النوم".
بعد مدبحة دير ياسين، وحادثة القتل التي جرت في القهوة خرجوا عن طريق شاحنة كان يملكها يعقوب زهية ورشيد حمودة، وصلهم الى رام الله التحتا، وسكنوا عند كبير في السن هناك، ثم عمل جدها على باصات يافا، وفي عام 1967 كان يعمل على حافلات تابعة للوكالة، كان يوصل الفتيات الذين يعملون في الوكالة الى لبنان وسوريا، فوقعت الحرب ثم أخذ الفتيات وزوجته وأولاده وذهبوا الى عمان، استقروا في مدرسة الحسين، وعند انتهاء الحرب عادوا الى رام الله التحتا، وهم يسكنون هنا منذ ذلك اليوم".
مفتاح جدتي
سماح صيام "23 عاما" فتاة من قرية لفتا، تعيش اليوم في الشيخ جراح، تخرجت من جامعة بيرزيت بتخصص الإعلام، أبوها سمع من جدها حكايا لفتا، وعند ذهابهم الى القرية يبدأ الوالد بتعريف سماح وأبنائه على تفاصيل القرية ابتداءا من دار المختار الى دار فلان وعلان، وعن العين في وسط القرية، وأعراسهم حولها، وكيف كانت النساء تجتمعن حول عين الماء ويغنيون الأغاني القديمة، العريس يزف على فرس والعروس تنزل للعين ويبدأ العرس.
في فترة النكبة سمع أهالي لفتا من القرى المجاورة عما يحدث من اغتصاب للنساء وجرائم القتل في قراهم، فحملوا بعضا من حاجيتهم ومفتاح المنزل ورحلوا ظنا منهم أنها فترة وستمضي وسيعودون، تقول سماح:"جدتي كانت حامل بأبي، وولد بعد أشهر من رحيلهم، مفتاح المنزل ما زال الى اليوم معلقا على حائط منزلنا".
تبقى القليل من بيوت لفتا في القرية بعد أن سرق الإحتلال أراضيها الشاسعة وبنوا مكانها عمارات حكومية، تقول سماح: "نذهب الى لفتا، نزورها كثيرا، ونقيم المخيمات الصيفية فيها، أتمنى أن نتذكر القرى المهجرة وتحديدا لفتا ليس فقط في ذكرى النكبة، علينا أن نذهب إليها دائما، نثبت وجودنا فيها، نذهب مع صغارنا ونحدثهم عنها، بالرغم من أنني لم أسكن فيها إلا أن لها في قلبي إنتماء كبير بعد أن سمعت عنها من أبي وجدي الذين يتمنون أن تعود أيام "العيشة بلفتا".
أيام زمان
على مساحات شاسعة من أرض العاصمة المحتلة تمتد أراضي قرية لفتا، وحسب ما ورد في كتاب "كي لا ننسى" لوليد الخالدي إن أهالي لفتا في الخمسينات كانوا يؤدون الضرائب على القمح والشعير والزيتون والفاكهة بالإضافة الى البساتين والكروم، وكانت في ذلك الوقت تعتبر ناحية من نواحي القدس (لواء القدس)، وبلغ عدد سكانها 396، أما في الثمانينات كانت أرض لفتا ساحة لمعركة خاضها الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ضد متمردين محليين على رأسهم الشيخ قاسم الأحمد.
وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت لفتا تقوم على جانب تل شديد الإنحدار، وعلى جنوبها نبع وقبور محفورة في الصخر، أما منازل القرية فقد بنيت معظمها من الحجارة، وفي عهد الإنتداب البريطاني توسعت القرية ، وأصبح عدد سكان لفتا في ذلك الحين 2550 نسمة ، وكان في وسط القرية مسجد ومقام وبعض الدكاكين، وكان فيها مدرسة ابتدائية للبنين، وأخرى للبنات أنشئت في سنة 1945، بالإضافة إلى مقهيين ونادي اجتماعي.
وحسب الخالدي فلفتا كانت في ذلك الحين ضاحية من ضواحي القدس تربطها بها علاقات اقتصادية، حيث كان سكانها يبيعون منتجاتهم في أسواق القدس، ويستفيدون مما تقدمه المدينة من خدمات، وكانوا يتزودون بمياه الشرب من نبع في وادي الشامي، ويزرعون أراضيهم حبوباً وخضروات وأشجار مثمرة منها الزيتون والكرمة.
احتلال لفتا
في عام 1947 أطلقت الهاغاناة النار على فلسطيني مالك لمحطة وقود في حي روميما وهو حي قريب جدا من لفتا، بعد أن اشتبهوا به أنه يمد القوات العربية بمعلومات عن مغادرة القوافل اليهودية الى تل أبيب، استشهد الفلسطيني، وفي اليوم التالي لهذه الحادثة ألقيت قنبلة يدوية على باص لليهود.
وقد قال عارف العارف إن أحد المقاهي في ذلك العام تعرض لهجوم بالرشاشات ما أدى إلى مقتل ستة من رواد المقهى وجرح سبعة، وبعد الهجوم على المقهى غادر معظم سكان لفتا، وبعد هذه العملية نسف أفراد من الهاغاناة منزل مختار حي الشيخ بدر المجاور للفتا، وبعد يومين دمروا عشرين منزلا في لفتا.
لفتا اليوم
المنازل المتبقية في لفتا معظمها مهجورة، وبعضها رمم ليقيم فيه المستوطنون، وتحول الحوض الذي أقيم حول النبع في وادي الشامي إلى أنقاض، وبات المسجد مهجورا، وغطت المقبرة الأشجار والأعشاب البرية، وبقيت أطلال المنازل بلا سكان.
يقول الدكتور زكريا صيام في كتابه "القدس مدينتي ولفتا قريتي": في عام 1948 كان عدد سكان قرية لفتا حوالي 2958 نسمة، وكان عدد بيوتها 450 بيتا لم يبق منها اليوم الا 55.