محمد ونور وقاسم.. حكايةُ قربى وصداقة، فاستشهاد
قباطية - رايــة:
مجدولين زكارنـة -
أم محمد سباعنة الثكلى تجلس بين مجموعة من المعزيات بإبنها البالغ من العمر 23 عاما تبكي وتقول بلوعة: "حبيب قلبي محمد، الله يرضى عليك". تمنعها الدموع من اتمام حديثها.
تتذكر الأم ابنها أنه كلما رآها منهمكة بالأعمال المنزلية حاول مساعدتها. وكان يطلب من باقي إخوته مساعدة أمهم.
لا شيء كان يوحي بما حدث، فمحمد لم يترك وصية ولم يتصرف بشيء يدل على أنه ينوي تنفيذ عملية طعن في بلدة حوارة جنوب نابلس.
كان شغوفا بالعلم، فكان ينوي إكمال الدراسات العليا في دولة أجنبية، بعد أن ينهي البكالوريوس في التحاليل الطبية، كما كان متوقعا بعد شهر ولكن حالت الأقدار دون ذلك.
"لن يغزو محمد على خزانة إخوانه مجددا ليرتدي جديد ملابسهم"، تقول عمة محمد "فقد كان أنيقا يحب الحياة، يشتري دائما الملابس على الموضة".
على سرير بسيط في غرفة فارغة من الأثاث سوى بعض الكراسي البلاستيكية يتمدد رفيق سباعنة، ليس بعيدا عن الغرفة التي قابلنا فيها والدة الشهيد، يرقد رفيق سباعنة، الوالد الذي أقعدته رصاصة اخترقت ظهره في الإنتفاضة الأولى وأبقته على كرسي متحرك بقية حياته. كانت زوجته حاملا بمحمد في شهرها السادس. يسند رفيق ظهره ببعض الوسائد، والسيجارة لا تفارق إصبعيه السبابة والوسطى، وكلما أنهى واحدة أشعل أخرى: "محمد أوسط أولادي وأنضجهم وأكثرهم وعيا وحبا للحياة والعلم، كنت أنتظر شهادته الجامعية بداية العام الجديد لأعلقها على الجدار... لا أريد صورة له مكانها".
من الشباك المجاور لسريره يشير رفيق سباعنة إلى بناية مجاورة قيد الإنشاء من طابقين، ويقول إن ابنه محمد كان سيبني طابقا إضافيا هنا مع أخوته ليتزوج، فقبل أيام فقط من استشهاده طلب من أمه أن تخطب له عروسا.
كان والد محمد يأمل أن يعوضه ابنه عن سنوات عمره التي قضاها مُقعدا.
قديما، عاش تجربة الفقد هذه عندما استشهد أخوه حافظ (عمّ محمد) قبل أكثر من عشرين وابن خاله الأتاسي في ذات الفترة أيضا، وسمّى ابنيه بـ حافظ والأتاسي، تخليدا لذكرى الشهيدين.
على مدخل المنزل طفلة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، ابنة عم محمد، تبكي بحرقة وتقول: "كان بمثابة أخ لي، يمازحني اينما رآني... قضينا طفولة جميله معا وكنت أطلب منه شرح بعض المسائل الرياضية".
أمتار قليلة تربط بين بيتيّ الشهيدين محمد ونور الدين سباعنه في قباطية. الطرقات الصغيرة التي شهدت ذكريات الطفولة والشباب تعجُّ بالمعزين والمعزيات، فنساء البلدة ورجالها وأطفالها يتنقلون بين المنزلين لتقديم واجب العزاء وسط غيمة من الحزن أسكتت كل صوت إلا آيات القرآن التي تُتلى على روحهما.
نور الدين توأم روح محمد كما وصفت أم نور علاقة إبنها بمحمد الذي يكبره بـ 6 أعوام.
نور طالب في الثانوية العامة كان يستعد لخوض فصل جديد وأخير في حياته المدرسية، لكن فصلا آخر من حياته كتبته رصاصات قاضية من جندي إسرائيلي.
لن يطلب نور بعد اليوم من أخته الوحيدة أن تنبهه عند الفجر لمراجعة دروسة قبل الخروج الى المدرسة، كما فعل يوم استشهاده، فهذه المرة خرج بلا عودة.
والدة نور الدين، التي لا تزال شابة، تقول بصبر واحتساب: "الآن لا اتذكر سوى ابتسامة نور، كان مطيعا ومرضيا، يسبق سنه، قبل أيام من استشهاده حملني ودار بي في المنزل، لا اعرف اذا ما كان ذلك دلالة على شيء، ولكنه كان يطبع قبلة يومية على جبيني ... كان حنونا".
تحمل بيدها شهاداته المدرسية وتقول: "نور متفوق في دراسته منذ صغره، لم يتعبني يوما ولم يعصِ لي أمرا، صلّى الفجر وخرج الى امتحان الرياضيات، خرج ولم يعد. "شَعَرت بانقباض مفاجئ في قلبها، وسمعت صوت طائرة زنانة، اتصلت بصديقه قال إنه رآه في المدرسة، لكن أبناءها الذين كانوا يشاهدون الأخبار عبر التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي قرأوا اسم أخيهم على الشاشات. كان نور قد ذهب برفقة صديقه محمد إلى حاجز حوارة بعد أن باع هاتفه الجوال وأرسل ثمنه لوالدته.
لنور صديقان عزيزان استشهدا قبل شهرين تقريبا هما أحمد أبو الرب وقاسم سباعنة. كان نور ومحمد وقاسم يقضون معظم أوقاتهم سويا، قبل استشهاد قاسم كانوا يتخذون من بسطة اسمنتية قريبة من منزل نور مجلسا لهم.
استشهاد قاسم ترك أثرا بالغا في نفس محمد ونور كما قال أفراد الأسرتين، زاد من ألم الفراق مشاهد تكفين صديقهما أحمد أبو الرب الذي سُلم جثمانه قبل 4 أيام من استشهادهما.
كان محمد أصر يومها على الدخول الى الغرفة التي يكفن بها أحمد ليلقي نظرة الوداع الأخيره عليه، والتقاط الفيديو الاخير له.
محمد ونور وقاسم، ثلاثة شهداء من عائلة سباعنة، وصديقهم أحمد أبو الرب، إرتقوا جميعا في أقل من شهرين تركوا أهلهم عاجزين عن الإجابة على أسئلة كثيرة، وغير مصدقين أن أبناءهم اتجهوا من قباطية إلى حوارة أو زعترة على مدخل نابلس كي يطعنوا جنود الاحتلال.
شهود عيان كانوا متواجدين لحظة استشهاد نور ومحمد سباعنه افادوا لرايـة" بانهم شاهدوهما أثناء مرورهما أمام جيب عسكري يتواجد دوما في حوارة فاشتبه بهم الجنود وطلبوا منهم الكشف عن ملابسهم، فباغتهم الشابان بطعن أحد الجنود في الوجه، ثوان معدودة واخترقت أكثر من 10 رصاصات جسد الشابين سباعنة.
يقول شاهد عيان آخر وهو أحد العاملين في ورشة ميكانيك إن أحد الجنود رأى أحد الشابين يتحرك بعد إطلاق الرصاص عليه فقام بإطلاق مجموعة أخرى من الرصاصات من مسافة الصفر على الشابين ليتاكد من قتلهما.
وعند وصول سيارة الإسعاف الفلسطينية الى المكان، رفع الجنود السلاح في وجه المسعفين وسمحوا للاسعاف الاسرائيلية بنقل الجنديين المصابين... وغطوا جسدي الشهيدين سباعنة بالقصدير.
أزالوا آثار جريمتهم بالماء ولملموا الرصاص الفارغ ورحلوا.