تفاصيل حياة أديب تبدأ بدموع طفل و أمه مهجرين على عربة يجرها حصان- يوسف الطاهري.
باريس - راية
في هذا النص أكتب انطباعات حول اللقاء المنعقد في باريس احتفاء بالأديب و المناضل الفلسطيني يحي يخلف، و في البدأ أود أن أشكر كل من ساهم في الإعداد لهذا اللقاء الأدبي الشيق في مدينة مهجرية نادر ما يتاح مثله، شكرا للشاعر يحيى الشيخ و الشاعرة أحلام قليدة و كل طاقم إدارتي منتدى الآداب و التبادل الثقافي و مركز الأبحاث والدراسات الفلسفية لهذا العطاءوالسخاء الرائع
بعد أكثر من ثلاث عقود لازال يحيى يخلف راسخا في الذاكرة
كنت مثقلا بهموم كثيرة صباح هذا اليوم ( 19ـ09ـ2015)، عليَ فرز العاجلة منها و نفض كلما يقلقني منها. مع أني أدرك أنها هموم حياتية يومية قد تزول مع زوال اليوم أو الاسبوع. بعد جولة هادئة في خاطري، أكتشفت أن انشغاله و قلقه لا يتعلق بتلك الهموم كما ضننت، بقدر ما هو يتعلق بلقاء مع الروائي و المناضل الفلسطيني يحيى يخلف سينظمه منتدى الآداب و التبادل الثقافي بباريس.
من الطبيعي أن يسأل سائل عن سبب هذه الرجفة الداخلية التي احتوتني و جعلتني أعيش حالة قلق يوجد مصدره خارج دائرة همومي المعتادة، و التي كانت بفعل الحرص على لقاء رجل لم ألتقي به يوما، و لم أقرأ له كثيرا، بخلاف رواية "نجران تحت الصفر" و التي مضى على قراءتي لها ما يقرب أو يفوق ثلاثون سنة، حتى أني لا أتذكر من أحداثها إلا زمن و مكان كتابتها.
و بالمكشوف وبدون التحايل على هواجسي، أعترف أني لازلت أعيش على ذكريات الثمانينات، و أشعر أني لا زلت منشغلا بها و كأنها لازالت قائمة و مشاهدها لازالت حية في حاضري.
كان الروائي يحيى يخلف واحد من الذين تابعت مسيرتهم و هو أمينا عاما للاتحاد العام للكتاب و الصحفيين الفلسطينيين، تابعت مسيرته وهو يدوي بمواقفه السياسية بجانب عدد من أعمدة الأدب الفلسطيني.
شعراء و روائيون و فنانون تشكيليون فرق موسيقية ساهموا في افتضاض بكارة وعيي و إدراكي الجنيني، مثلي مثل ملايين من الشباب العربي في مثل سني. ذلك الوعي الذي عانى انغلاقا وسط بيئة فكرية تقليدية تمنع أي جديد منير من النفوذ إليه. بيئة رسخت في الذهن قواعد و منطلقات تكرس الجهل والبؤس و الانصياع المذل لمعطيات الواقع الرديئ.
كنت و رفاقي نتابع أحداث القضية الفلسطينية على مدار الساعة و نعتبرها قضية وطنية تكبر بكثير في وعينا عن القضايا الوطنية للشعب المغربي. و كأننا نقول وبقناعة راسخة، إن تحرير الوطن العربي يبدأ بتحرير فلسطين التي تتكالب عليها أعتى الأنظمة الامبريالية و الرجعية.
أتذكر ونحن في السجن بعد اعتقالنا سنة 84، أننا كنا نحفظ أرقام قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية واحدة واحدة، أكثر مما نحفظ الأرقام المتعلقة بقضية الصحراء المغربية. وحتى عندما هدد الحسن الثاني اليسار في خطاب له في الثمانينات بسبب حضور البولزاريو في إحدى دورات المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد بالجزائر قائلا: إن من يجلس مع الفلسطينين: ـ " غادي نوسخ باب دارو بذاك الشي لي ماكيتذكرش ". أنذاك، وجدنا أنفسنا منحازين كليا إلى الشعب الفلسطيني و بالذات منظمة التحرير و فصائلها المناضلة، رغم اختلافنا معها في طريقة إدارتها للقضية الفلسطينية و اختلافنا معها في موقفها بقضية الصحراء المغربية. مع أننا كنا منحازين للتيارات الراديكالية منها الجبهة الشعبية بقيادة حكيم الثورة الفقيد جورج حبش.
بسبب الحنين لتلك اللحظات الشبيبة، تركت جانبا همومي الذاتية، و أنا أدرك أنها ستبقى أبدية و سترافقني طوال مكوثي على وجه البسيطة، بينما اللقاء مع شخص راسخ في الذاكرة لا يمكنه أن يتوفر إلا مرة واحدة.
وهكذا حملت حقيبتي، و نزلت باريس التي تبعد عن مكان إقامتي ب 120 كلم، أبحث عن مكان اللقاء، و في ذهني أنه سيكون مرصعا بعناصر و مكونات قد تنعش ذاكرتي بلحظات أحن إليها، و أحرص على تجديد الدم فيها رغم وعيي بأن الأمر يتعلق بالاستجابة فقط لحنين دفين.
كان اللقاء في شارع "سان ميشال" في الحي اللاتيني، و الذي عُرف بكونه حي للأدب والسياسة منذ ثورة الطلاب سنة 1968، يحج اليه الأدباء و المفكرون والفلاسفة والسياسيون بمختلف أجناسهم و اختصاصاتهم من انحاء العالم. وأضن أن اختيار المكان من قبل المنظمين لم يكن اعتباطيا بل كان مقصودا، بحيث أنه مكان يعبر رمزيا عن تقدير كبير لشخصية يحيى يخلف كشخصية أدبية و سياسية وثقافية .
تفاصيل حياة أدبية تبدأ بدموع طفل و أمه مهجرين على عربة يجرها حصان .
قليلا ما يتحدث عن دوره في السياسة مع انه لعب دورا مهما و أحيانا محوريا في العمل السياسي الممانع وفي الوحدة التنظيمية لمنظمة التحرير الفلسطينية و تجميع المثقفين و الأدباء و الصحفيين من أجل القضية الفلسطينية، بل لا يتحدث عن السياسة إلا بارتباطها بالأدب، أو عن دورها كشرط موضوعي في نسج أحداث رواية من الروايات في ذهن الكاتب. و قد أفلح كثيرا في رسم علاقة الثقافة بشكل عام و الأدب بشكل خاص بالسياسة و المجتمع. حريصا منذ البدء على ضبط الخيط المتين الذي يربط الانتاج الأدبي بقضايا الواقع الاجتماعي. من أجل ذلك استعاد مقولات و أراء لعدد من الأدباء و بسط خلاصات شخصية نتجت عن تجربته الطويلة في الكتابة والسياسة.
ليس جديدا على كاتب مثله، أن يعتمد تعريفا يقول إن تاريخ الشعوب هو تاريخ ثقافتها و نضالها و هو مجموعة من الأشكال السردية التي توثق لمراحل اجتماعية بعينها، و خلص إلى القول بأن الرواية هي وثيقة اجتماعية تؤرخ لوضع مجتمعي.
و في سياق الحديث عن الأدب بشكل عام، خصص قدرا من الوقت للحديث عن مكانة الثقافة و الأدب العربي في الأدب العالمي و اعتبره ذات قيمة عالية تشغل مساحة واسعة في الثقافة العالمية، مؤكدا بأن الأدب العربي يستحق بحق أن يكون أدبا عالميا.
وكمثل روائيين بصموا بكتاباتهم تاريخ الأدب العربي، عرج نحو أسئلة مؤرقة تشغل المثقفين و استفاض في الإجابة عن سؤالين اساسين هما: لماذا نكتب و كيف نكتب؟
في سؤال كيف نكتب حرص على ذكر طقوس بعض كبار الأدباء العالميين و الفلسطينين، ولم يفته ذكر طقوس محمود درويش في الكتابة، حيث قال أنه كان ينام باكرا و ينهض من نومه باكرا ، ثم يستحم و ينتاول فطوره ، و بعدها يرتدي ثيابه و كأنه متوجها للعمل، فيدخل الغرفة الخاصة بالكتابة و القراءة و المحاذية لغرفة النوم، وهكذا ينهمك في الكتابة والقراءة حريصا على ضبط الوقت و كأنه في عمل مهني.
وفي مجرى الحديث عن الكتابة، استرجع ذكريات مع عدد من الادباء العرب، مصريون وسويون وجزائريون. في هذا السياق، تذكر لحظات مع صاحب رائعة " شرق المتوسط" عبد الرحمان منيف الذي عانى من التعذيب والسجن و المنفى، فقد أخبره يوما في لقاء به في فرنسا، بأنه منذ أن التحق بالمنفى بفرنسا و بعد أن قضى بها أربع سنوات، لم يتمكن من كتابة جملة واحدة، رغم أنه كان يضن أنه في بلد ديمقراطي يمكن أن تتوفر له شروط الحرية الضرورية للكتابة ويمكنه أن ينتج أكثر، و اخبره أنه يرغب في مغادرتها.
هذه الاستفاضة من قبل الكاتب في التعريف بالأدب ودوره في المجتمع و أسئلة حول شروط إنتاجه و طقوسه، لم تكن سوى بحثا عن منفذ لتحديد أثار الواقع في حياته الأدبية، فقد استعاد ذاكرة النكبة بطريقة فريدة فلم يتحدث عن أحداثها المأساوية بسرد الأحداث كما يفعل السياسي، بل تناولها كمثقف استقطبته أحداث بسيطة و عادية، لكنها تحمل عمقا و دلالات تترجم مأساة و دموع الناس المهجرين قسرا من أرضهم.
هل كان الحدث الأصل في تكوين البنية الفكرية و الأدبية في ذات الأديب هو فقط حدث الرحيل و أمه على عربة حصان نحو المجهول ؟ بالتأكيد أن الجواب سيكون بلا، لكنه حدث ضمن أحداث أخرى كان لها تأثير في حياته.
كان ذلك ذات يوم شتوي بارد، حيث رحل مهجرا رفقة والدته و الجيران عبر عربة يجرها حصان، كان الطفل يبكي و يتشبث بوالدته و يتساءل : هل كانت والدتي ترتجف من شدة البرد أم بالخوف؟. هو ذاك السؤال المرجع، بداية لأسئلة كثيرة ستطارده و شينشغل طوال الزمان كي يحصل على أجوبة لها.
وهل ترسى الكلمات هادئة على ضفة مأساة هائجة؟، و هل يمكنها أن تستقيل عن دورها و فضائها إن هي كانت صادقة نابعة من عمق المأساة نفسها؟
فالطفل الذي لفظته أمواج العدوان القاسية والتهجير القسري إلى ضفاف جفاف المنافي و قلق المخيمات، ورعب مداهمة الرصاص لها، و دموع الميتمين من الأطفال و الثكلى من النساء، وهو في طور بداية البحث عن معنى للحياة، سيحمل في ذاكرته بالضرورة أحلام من أجل الخلاص من مجمل المعاناة، أحلام ترتبط بالأرض والناس والهواء و تاريخ حياة مغتصبة من مهدها إلى لحدها. و ذكريات بساطة الناس وهم يكافحون من أجل ضمان البقاء في أرض ستسلب منهم خيراتها و بعدها يُهجرون فوق عربات خشب يجرها حصان، يحملون معهم فقط ذكريات و قطرات شتاء و دموع بللت و جوه النساء و الأطفال.
هكذا ستتمحور ذكرى الأرض في مشهد أخر ساعة الوداع، تلك التي تفصل ما بين لحظة العيش في الوطن و بين لحظة اعتناق المنفى. و من الطبيعي أن تبقى تلك اللحظة ماثلة في الذاكرة إلى الأبد، و ستترسخ في الوعي مرجعا، سيشعل الحنين إلى ما قبلها، معاناة المنافى والقمع الدموي و محاولات طمس التاريخ والهوية...
ليس غريبا عن طفل عاش لحظة مأساة مشابهة، أحدثت انكسارا في عمق إدراكه، استعصت عليه منذ البدء اسئلة ضياع الأرض و الوطن، اسئلة ارتجاف الأم و ضعفها و هي تذرف دموعا تختلط بدموع السماء، نساء و أطفال ببكون حظهم، ليس غريب عليه أن يرسي كلما تبقى من أسئلة، حول محور المأساة في سؤال واحد: لماذا حدث ما حدث؟
ذلك السؤال الذي سيشكل خلاصة لكل الأسئلة المباشرة لحدث الطفولة، مثل لماذا بكت الأم و ارتجف جسدها؟ هل كان ذلك من الخوف أو من البرد؟ و سيجد جوابا واحدا ووحيدا لتلك الأسئلة الموجعة هو المقاومة ثم المقاومة.
و هكذا وظف الطفل الذي اصبح كاتبا مثيرا، كلما يملك من قدرات و إمكانيات فكرية و سياسية وصلت حد وضع حياته رهن قضية شعبه مقاوما مع الفدائيين و مسؤولا في أجهزة تنظيمية، كل ذلك يبدو زكأنه انه بحث مضن عن الشفاء من عذاب حدث أو أحداث الطفولة المشحونة بهواجس الرعب الذي بثه الكيان الصهيوني وسط الشعب الفلسطيني.
المثير فيي لحظة و هو يتلو هذا الحدث المأساة، كان يقرأها و كأنه مصر أن لا تضيع منه الكلمات، حريص على أن يعبر بعمق عن الوضع النفسي للطفل أثناء حدث التهجير، كانت تقاسيم وجهه توحي بحنين طفولي إلى الأم و الجيران والحصان و الأرض و الوطن، كان يحكي ذلك بصوت ذو نبرات طفولية حزينة، يود استعادتها لكي يتخلص من عذاب الحدث و دموع الأم و بكاء النساء و الأطفال.
حمل الطفل هذا الحدث و لم يجد الا التعبير عن هذه الماساة التي يعشها الشعب الفلسطيني من خلال القصة في البداية والتي ستبدأ مع مجلة مقدسية كانت تستقطب إليها أدباء كبار، ثم الرواية وكانت أول روايته الأكثر مبيعا و الذي نقلته الى صفوف الادباء الكبار هي رواية نجران تحت الصفر، وهي رواية كتبت في المنفى عندما كان في بلدة يمنية قريبة من السعودية إسمها نجران، وكان ذلك في فترة صراع بين الملكيين والجموهورين.
كان ذلك أول عمل روائي سيجعل البعض يتساءل عن سبب كتابة يحي يخلف رواية عن بلدة و قضية غير القضية الفلسطينية، وكان الجواب ربما أنه على لكاتب أن يأخد مسافة معينة على الأحدث، وحتى يكون اكثر قدرة على فهمها وصياغتها بجمالية وقوالب توفي بالإنتاج الادبي الراقي، و بالفعل و بعد هده الرواية انطلقت مسيرة الكتابة حول أوجاع الشعب الفلسطيني و عن الأرض و القضية ، فكتب عن الفدائيين الذين عاش ينهم و عن عذاب المنفى، و في كل كتابتاه حريص على الجانب الجمالي .
لقد كان من حظ يحيي يخلف أنه منذ طفولته يميل للقراءة و الكتابة، و رغم أن والدته كانت تريده أن يكرس جهده في دراسته و تحثه على الاشتغال في ما يتعلق ببرامج المدرسة، كان هو ينحاز إلى قراءة كتب التاريخ و الادب العربي و العالمي، و يذكر أنه عندما تزامن نشر قصته الأولى في المجلة المقدسية مع حيازته شهادة الباكالوريا، فقد عاش حالة فرح غريبة بسبب نشر القصة وليس بسبب النجاح في الباكالوريا.
هكذا انتهت مداخلته الشيقة و تلتها أسئلة الحضور و اسئلة أحلام قليدة التي تركزت على عدد من المحطات في حياة الأديب و في طقوس الكتابة و علاقة الأدب بالقضية يرافقها الشاعر يحيى الشيخ الذي أهدى الكاتب قصيدة بالمناسبة.
انتهى اللقاء على أنغام الصوت الملائكي للفنانة المغربية فاطم الزهراء القرطبي، التي غنت أغنية استعادتها من ذكريات مخيمات الطفولة تتعلق بالقضية الفلسطينية ، و تحفة من الأغاني المغربية يرافقها الفنان محمد الريصاني على آلة الغيثارة مرة و على آلة العود مرة أخرى.
المصدر صفحة يخلف