من اللد إلى قمم القانون الدولي
نجاح دقماق... صوت فلسطيني يواجه عدالة العالم الصامتة بالقانون والبحث

خاص - راية
في حضور فكري وطني لافت، تواصل الدكتورة نجاح دقماق، أستاذة القانون الدولي في كلية الحقوق بجامعة القدس، بناء مسيرتها العلمية والمهنية كأحد الأصوات القانونية الفلسطينية البارزة.
مؤخراً، تُوّجت د. نجاح مسيرتها بفوزها بالمرتبة الأولى في مسابقة البحث العلمي القانوني – الدورة الثانية لعام 2024 عن بحثها المتميز: "تأرجح العدالة الدولية بين ضبابية السياسة وعجز إنفاذ القانون"، الذي يعالج بجرأة وعمق الواقع القائم في مؤسسات العدالة الدولية حين يتعلق الأمر بفلسطين.
من جنيف إلى رام الله... بحث يضع إصبعه على جرح العدالة الدولية
د. نجاح تحدثت لبرنامج "ضيف الراية" عبر "رايــة" عن بحثها وقصة نجاحها ومسيرتها المهنية المستمرة، إذ تطرقت في مستهل الحلقة إلى فكرة البحث الذي يناقش مسألة غاية في الأهمية.
بدأت فكرة البحث بتكليف من الدكتور الراحل نايف جراد، ضمن تحضيرات لمؤتمر "المحكمة العالمية لفلسطين" في جنيف. رغم انشغالها كمديرة برامج الدراسات العليا في جامعة القدس، قبلت التحدي، وقررت أن تخوض غمار هذا الموضوع المعقد. شعورها كقانونية فلسطينية أمام سؤال "أين العدالة لفلسطين؟" قادها لصياغة عنوان بحثها، الذي وضع السياسة والقانون على كفتي ميزان لا يتوازنان في عالم تحكمه القوى العظمى.
في بحثها، سلّطت الضوء على ازدواجية المعايير في النظام القضائي الدولي، من خلال مقارنة سلوك المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، مشيرة إلى التناقضات الصارخة، مثل إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي بوتين، فيما تأخر صدور مذكرات بحق قادة الاحتلال الإسرائيلي، رغم وضوح الجرائم في غزة.
كما ناقشت دقماق العقبات القانونية التي تُستخدم كأدوات لتعطيل العدالة، مثل المادة (16) من نظام روما الأساسي التي تسمح بتجميد التحقيقات، أو الضغوط السياسية التي تمارسها دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل على القضاء الدولي، بما في ذلك التهديد الصريح لقضاة المحكمة الجنائية الدولية.
جامعة القدس حاضنة التميز... وطلبة يكتبون القانون بإرادة المقاومة
فوز دقماق في المسابقة لم يكن الإنجاز الوحيد؛ فقد أشرفت على مجموعة من طلبتها الذين حصدوا المراكز الثلاثة الأولى في مسابقة التميز القانوني التي نظمتها مؤسسة الحق وجامعة الاستقلال. الطلبة، تحت إشرافها الدقيق، تناولوا جرائم الاحتلال بحق المدنيين في غزة، بما فيها جريمة التجويع، وهو ما اعتبرته دقماق لحظة فخر علمي ووطني.
أشادت بالدور الكبير الذي تلعبه جامعة القدس في دعم البحث العلمي، مشيرة إلى أنها تقلص عبء الساعات التدريسية للباحثين وتدعم نشر أبحاثهم في مجلات محكمة، وهو ما ساعدها على التطور في مسيرتها الأكاديمية والوصول إلى درجة أستاذ مشارك.
من تجارة الأغنام إلى مقاعد القانون... مسيرة لا تشبه إلا نفسها
وراء هذا الإنجاز الأكاديمي، تقف قصة شخصية استثنائية. فنجاح، ابنة مدينة اللد المهجّرة، وُلدت في الظل الثقيل للنكبة. رافقت والدها تاجر الأغنام في أسواق الضفة الغربية، وتعلمت منه الاستقلالية والأمانة والثقة بالنفس. كانت تسافر معه، تحصي الحسابات، وتسوق المركبة وهي بعدُ طالبة في المدرسة، في زمن لم يكن فيه من المعتاد أن تعمل فتاة في التجارة.
بدأت دراستها في جامعة بيت لحم، ثم التحقت بجامعة عين شمس في القاهرة، حيث نالت الدكتوراه في القانون الدولي. من تجربتها المبكرة في مؤسسة مانديلا لرعاية الأسرى، ولدت شرارة الاهتمام بالقانون، لا سيما في توثيق الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون.
وقد تركت شقيقتها المحامية بثينة دقماق أثراً بالغاً في مسيرتها، حين كانت تزور المعتقلات من الثمانينات، حتى أصبحت هي الأخرى صوتاً لحقوق الإنسان داخل قاعات المحكمة وفي محافل البحث العلمي.
إرادة لا تلين... ووصايا للنساء
في حديثها، حرصت دقماق على توجيه رسالة للنساء الفلسطينيات: "كوني صاحبة إرادة... تعرّفي على حقوقك ولا تخشي المطالبة بها. صوتك مهم، ومكانك في مراكز صنع القرار يجب أن يُنتزع، لا يُمنح". وهي إذ تستذكر ترشّحها المتكرر لنقابة المحامين، توضح أن ما يعيق النساء أحياناً هو غياب الدعم من نساء مثلهن، أكثر من أي عائق آخر.
ورغم أنها ترى تقصيراً في حضور المرأة بالمواقع القيادية، إلا أنها تؤمن أن التغيير يبدأ من الإصرار على التعلم والكتابة والمشاركة، مشددة على أن البحث العلمي بوابة للعدالة والتأثير.
في الخلاصة... نجاح دقماق ليست فقط باحثة قانونية نالت جوائز، بل سيرة فلسطينية مكتوبة بحبر الوعي والمثابرة. سيرة جمعت بين العمل الحقوقي، والبحث الأكاديمي، والتدريس، والنضال الإنساني، في زمن تتراجع فيه القيم القانونية أمام صوت البندقية. لكنها تؤمن أن القانون – رغم كل ما أصابه – لا يزال سلاحًا ناعماً ومؤثراً، متى ما حمله من يستحقه.