البيت كان يهتز بجميع أركانه لدرجة أنني كنت أنتظر سقوطه على رؤوسنا في أي لحظة
شهادة طفلة من مخيم جنين.. بين التدمير والنزوح

"كان كل شيء على ما يرام، فجأة ودون سابق إنذار، سمعنا صوت انفجار قوي، فأدركنا أنه ناتج عن قصف من طائرة مُسيرة إسرائيلية في محيط مخيم جنين، خاصة أننا أصبحنا نعرف من الصوت مصدر الانفجار، فقد اعتدنا على سماع هذه الأصوات منذ سنوات".
بهذه الكلمات بدأت الطفلة "م.ص" (16 عاما) من مخيم جنين، حديثها للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال حول ما حدث معها وأسرتها في الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني 2025، عندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الأخير على المخيم.
وأضافت الطفلة: "حملت هاتفي المحمول فورا وتصفحت المجموعات والمواقع الإخبارية، ليتبين لي أن هناك قصفا إسرائيليا استهدف مركبة في محيط المخيم، وحينها لم يكن هناك أي اقتحام أو توغل في المنطقة، وبعد فترة زمنية قصيرة، بدأت أسمع صوت إطلاق نار كثيف، ومن خلال متابعتي لمواقع إخبارية، علمت أن هناك وحدات خاصة إسرائيلية تسللت إلى عدد من المباني المحيطة بالمخيم، وأن هناك حشودات وتعزيزات تجاهه، لكنها ليست ككل مرة، بل أكبر بكثير، خاصة من حيث عدد الآليات والجرافات".
وتابعت: "في هذا العدوان، كان حجم الآليات العسكرية وأصوات الانفجارات وتدمير المنازل والطرقات غير مسبوق. كان هذا العدوان مختلف تماما عن الاعتداءات السابقة، والأساليب المستخدمة في تدمير الطرق كانت مختلفة. أصوات الانفجارات لم تتوقف، بالإضافة إلى تفجير المنازل التي تم تهجير سكانها، وتدمير الطرق كان أكبر وأكثر شدة، وأصوات الجنود وصراخهم ومكبرات الصوت، وأصوات الرصاص، كانت تعم أرجاء المخيم بشكل متواصل، والجرافات كانت تهدم المنازل بكل ما تحتويه، وتدمر كل شيء في طريقها. كنت أشاهد منازل يتم تفجيرها".
وقالت الطفلة: "في الاقتحامات السابقة، كنا قبل أن تتوغل قوات الاحتلال إلى داخل أزقة المخيم، نغادر المنزل ونذهب إلى أماكن أخرى، لأن جيش الاحتلال كان يقوم بالتنكيل بمن يجده في المنزل، كما كان يتعمد تدمير الجدران أمام أعين الأهالي، وكنا نتعرض للاحتجاز لعدة أيام داخل إحدى الغرف في خوف وقلق دائمين، نسمع صوت إطلاق النار والانفجارات طوال الوقت، كما عانينا من نقص حاد في المواد التموينية والمياه، وكان الوضع في غاية الصعوبة، ولم نكن نعرف كيف سنتمكن من النجاة من عنف الجنود وأساليبهم الوحشية، كانوا يصطحبون معهم الكلاب البوليسية الضخمة، وفي إحدى الاقتحامات السابقة تم احتجازنا في ظروف قاسية ومؤلمة لعدة أيام، وحينها اعتدى الجنود على والدي وشقيقي بالضرب المبرح أمام أعيننا، ولم نتمكن من تقديم أي مساعدة لهما، ونفد الطعام والشراب من المنزل، ولولا مساعدة الهلال الأحمر الذي تمكن من إيصال بعض زجاجات الماء وأكياس الخبز، لما تمكنا من البقاء على قيد الحياة، ومع مرور الأيام، أصبحت وجبتنا الوحيدة هي الخبز".
وتابعت: "أما في هذا الاقتحام، وبسبب وصول جيش الاحتلال بشكل مفاجئ وسريع إلى المخيم، كان من المستحيل لنا الخروج من المنزل رغم محاولاتنا المتكررة، وكنت قد أصريت على والدي وطلبت منه أن نخرج تحت أي ظرف، لكنه كان يجيبني أن خروجنا من المنزل يعني إصابة أو مقتل أحدنا برصاص الاحتلال، وأنه لا توجد أي إمكانية للخروج بأمان، عندها أخبرته أنه من الأفضل أن نموت مرة واحدة بالرصاص على أن نموت من الجوع أو بسبب الضرب والتنكيل الذي كنا نتعرض له في الاقتحامات السابقة، ولكن والدي أكد لي في النهاية أنه لا يوجد أي إمكانية للخروج بأمان، لذلك بقينا في المنزل تحت تهديد مستمر".
وأردفت: "عندما تأكدت أنه من المستحيل الخروج من المنزل، ذهبت إلى المطبخ وبدأت أخبئ الطعام والشراب وأملأ زجاجات المياه، حتى لا يتكرر ما عانيناه خلال الاقتحامات السابقة. وضعت كل الطعام الذي كان في المنزل في أماكن متعددة كي أضمن أنه سيظل في متناولنا لأطول فترة، محاولين أن نكون مستعدين لأي طارئ أو نقص في المواد الغذائية، ولكن رغم محاولاتي للاستعداد، قضيت تلك الفترة وأنا أبكي وأشعر باليأس".
وقالت الطفلة: "كنت أشعر بالذنب لأنني لم أدرك من البداية أن هناك وحدات خاصة إسرائيلية وأن التعزيزات كانت على وشك الوصول بعد قصف المركبة بصاروخ. بقيت أتابع الأخبار بدلا من أن أكون قد قررت النزوح مع عائلتي إلى خارج المخيم. هذا ما كنت أخشاه، أن أشعر بالذنب، ودائما كنت أخشى أن ألوم نفسي على ذلك".
ووصفت الطفلة "م.ص" الاقتحام الأخير لمخيم جنين بأنه "ليس كأي اقتحام سبقه"، قائلة: "كان مخيفًا جدًا، لدرجة أنني تمنيت الموت منذ اللحظة الأولى. لم أكن أعتقد أنني سأعيش مثل هذا المشهد، فالعدد الكبير من الآليات العسكرية وسرعة تدمير الطرق وحجم التدمير كان غير مسبوق. أصوات الانفجارات متتالية ولا تتوقف، وصراخ الجنود يملأ الأجواء، أصوات المعدات الثقيلة، والمركبات، والآليات العسكرية، والرصاص لا تنقطع، وتفجير المنازل وتدميرها مستمر بلا توقف".
وبينت الطفلة أنه منذ اليوم الأول بدأ الاحتلال بتفجير وتدمير منازل المواطنين القريبة من منزل عائلتها، وقالت: "من شدة الانفجارات وبسبب جنازير الجرافات، كان البيت يهتز بجميع أركانه لدرجة أنني كنت أنتظر سقوطه على رؤوسنا في أي لحظة، كنت أسمع أصوات الجنود وهم يقتحمون المنازل المجاورة لنا بعد اليوم الأول من الاقتحام، كنت أسمعها بوضوح من داخل غرفتي، حيث كنا نجتمع أنا وشقيقتي ووالدي ووالدتي في غرفة واحدة، وكنت أسمع أصواتهم وهم يقتحمون المنازل القريبة منا".
وأردفت: "كنت أنتظر برعب وصول الجنود إلى منزلنا، وكأن اللحظة التي سيصلون فيها لا مفر منها، وكل دقيقة كانت تمضي تزيد من قسوة التوتر والخوف الذي كان يملأ المكان، لدرجة أني أصبحت أتمنى أن يقتحم الجنود منزلنا فقط لأتخلص من هذا الانتظار المرعب، مهما كانت النتائج، فكان كل ما أريده هو أن أتحرر من ذلك الشعور الذي كان يزداد في كل لحظة".
وتابعت: "ما أفكر فيه الآن هو أننا لم نتناول الطعام أو الشراب في تلك الأيام، رغم توفرهما في منزلنا. بسبب حالة الخوف والترقب التي كنا نعيشها، فالانفجارات والرصاص لم تتوقف نهائيا، ولم يكن هناك وقت ولو لدقائق قليلة نشعر فيه بالأمان حتى نتذكر أننا بحاجة إلى تناول القليل من الطعام أو المياه، وكان الليل يندمج مع النهار، وفي اليوم الثاني أو الثالث من الاقتحام، كنت أجلس على ركبتي واسترق النظر من النافذة، وفجأة شاهدت جرافة مجنزرة ضخمة قادمة نحونا، عندها تذكرت حجم الطريق، فقلت في نفسي إنها لن تتمكن من المرور إلا بعد هدم منزلنا بسبب حجمها الضخم وجنازيرها المخيفة. وبدأت أبكي، ليس على المنزل، بل لأنني شعرت بأنني سأكون تحت جنازير تلك الجرافة".
وأضافت الطفلة: "خلال ذلك، بدأ إطلاق النار يزداد كثافة في محيط المنطقة التي نسكن فيها، وعندها غادرت الغرفة إلى غرفة أخرى، وبسبب كثافة إطلاق النار العشوائي، نسيت أمر الجرافة وبدأت أركز على الصوت والضجيج الذي كان يملأ المكان، فإطلاق النار أجبرني على الانسحاب إلى مكان آخر، وبسبب تداخل الأمور وكثرة الانفجارات، نسيت تماما أمر الجرافة التي أقلقتني في البداية".
ولم تستطع الطفلة تذكر في أي يوم بالضبط اقتحم جنود الاحتلال منزل عائلتها، بسبب حالة الرعب والخوف التي كانت تعيشها، معربة عن اعتقادها أن ذلك حدث في اليوم الرابع من اقتحام المخيم، في حوالي الساعة الواحدة ظهرا.
وقالت: "لا نعرف كيف امتلأ منزلنا فجأة بجنود الاحتلال، كانوا يرتدون ملابسهم العسكرية والغبار يغطيهم، مدججين بالأسلحة ومقنعين. لقد اقتحموا المنزل وبدؤوا بتفتيشه وتجميع محتوياته في مكان واحد. كنت أقف خلف والدتي ونبكي، كان أبي ينظر إلينا، لكنني لا أدري إن كان خائفا أم أنه أجبر نفسه على التماسك. لقد شعرت وكأن أبي كان يرغم نفسه على التماسك حتى نتمكن نحن من التماسك أيضا، أنا وشقيقتي ووالدتي. لكن الحقيقة أن الأمر كان مرعبا بكل ما تعنيه الكلمة".
وتابعت: "بعد ذلك، تقدم أحد الجنود نحو والدي وطلب منه أن نخلِّي المنزل وأمهلنا حتى الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم. وأشار لنا إلى الطريق الذي يؤدي إلى منطقة الهدف في مخيم جنين، وقبل أن يغادر الجنود قالوا لنا إنهم يقومون بإخلاء السكان من المخيم لأنهم سيقومون بتفجيره وهدمه، واستخدموا كلمة (بوف) تعبيرا عن ذلك".
وأردفت: "أخذنا أغراضنا الخاصة الضرورية فقط، وخرجنا من المنزل، وخلال سيرنا في الطريق التي حددها لنا جنود الاحتلال، التقينا بالعديد من الجيران والعائلات. كنت أنظر إلى الطريق وسألت والدي: هل هذه هي ذاتها الطريق التي تقع أمام منزلنا؟ فأجاب بنعم، وأضاف أن جرافات الاحتلال دمرتها وجعلتها بهذا الشكل. و"أنا أمشي كنت أنظر عن يميني ويساري، حيث المعدات والآليات العسكرية والجرافات، وأيضا الجنود القناصة، كانوا ينظرون إلينا. بدأت أبكي حزنا على منزلنا الذي تركناه، وحزنا على هذا المخيم الذي لم أعد أعرفه. لقد تغيرت كل ملامحه التي كنت أعيش بها وأعرفها. شاهدت العديد من المنازل وقد أصبحت ركامًا".
وأضافت: "خلال سيري وسط الجنود، لم أكن قادرة على تبديل الخطوات بين قدمي اليمنى واليسرى بسهولة بسبب سماكة الوحل الذي التصق بحذائي. أصبح وزن حذائي ثقيلًا جدًا، حتى بات المشي أمرًا مزعجًا. مع كل خطوة، كان الطين يزداد التصاقًا بقدماي، وكأن الأرض نفسها تحاول إعاقتي ومنعي من الخروج. كنت أشعر أن قدمايّ تنغرسان أكثر في الوحل، ما جعل السير أكثر صعوبة، وكأنني أحمل أثقالًا إضافية مع كل حركة".
وتابعت: "لقد تحولت الشوارع إلى برك موحلة بسبب تدمير شبكات المياه والصرف الصحي، لم يكن هناك مكان أضع قدمي عليه دون أن أشعر وكأنني أغرق في الوحل، ورغم كل تلك الصعوبات التي واجهتها في الطريق، لم يكن أمامي خيار سوى أن أواصل السير، كنت أشعر بأن كل خطوة تأخذ مني جهدًا مضاعفًا، لكن الخوف من الجنود الذين يحيطون بنا من كل اتجاه جعلني أتجاهل التعب والمشقة. لم أجرؤ على التباطؤ، كنت أخشى أن أي تأخر أو تعثر قد يُفسر على أنه تردد أو عصيان، وهو ما قد يدفع الجنود إلى إطلاق النار صوبي دون تردد، كان الخوف من ردة فعلهم يفوق أي مشقة أخرى، وكان البقاء على قيد الحياة يعني أن أواصل السير مهما كان الثمن".
وقالت: "بعد أن وصلنا إلى منطقة الهدف. رأيت العديد من العائلات تقف في صمت، تحيط بها آليات الاحتلال وجنود مدججون بالسلاح. كانوا يقسمون الشبان إلى مجموعات، كل مجموعة مكونة من خمسة أشخاص. يفتشونهم ويفحصون هوياتهم بدقة. يسمحون للبعض بالمغادرة، ويحتجزون آخرين ويقتادوهم إلى مركبات عسكرية، أما نحن، فقد سمح لنا الجنود بعد تفتيشنا والتأكد من هوية والدي بمغادرة المكان".
انتقلت الطفلة "م.ص" وعائلتها إلى منزل قريب لهم في ريف مدينة جنين، وتقول: منذ ذلك الحين وحتى اللحظة، لا يفارقني التفكير بمنزلنا وبالمخيم، أحاول الوصول إلى مقاطع الفيديو التي يتمكن الصحفيون من التقاطها للتأكد إن كان منزلنا لا يزال قائما أم تم هدمه أو تفجيره، عدا عن الأسئلة التي تراودني والتفكير في حال تم هدمه، إلى أين سنذهب؟ وأين سنقيم؟ ماذا حصل في ممتلكاتنا؟
ويواصل الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على مدينة جنين ومخيمها لليوم الحادي والثلاثين على التوالي عشرات الشهداء والمصابين، ودمارا واسعا، وأزمة إنسانية خانقة، إضافة إلى آلاف النازحين.
ووفق القانون الدولي، فإن ممارسة الإخلاء القسري تشكل انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان، لا سيما الحق في السكن اللائق.