الفريق جبريل الرجوب - أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح لـ”القدس العربي”: أولويتنا استعادة الوحدة الوطنية والنضال لأجل مشروع الدولة
حاوره: وائل الحجار
بعد عشرين عاما على استشهاد ياسر عرفات، القائد التاريخي للشعب الفلسطيني، لا يزال رفاق دربه ومشواره، في حركة «فتح» وخارجها، ومن بقي منهم على قيد الحياة، فلم يُستشهد، ولم يرحل، و»ما بدّل تبديلاً»، ومن مواقع المسؤولية، يحدّدون مسار البوصلة انطلاقا مما يقولون إنها ثوابت أبو عمار، «أبو فلسطين»، في إدارة الصراع.
وتأتي ذكرى رحيل «أبو عمار» هذا العام، في الوقت الذي تمرّ فيه فلسطينُ في أحد أصعب مراحلها منذ النكبة عام 1948، وفيما حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل تعمل في الشعب الفلسطيني في غزّة، قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا على نطاق واسع، من دون رادّ، بينما يزحف غول الاستيطان على الضفة، ويُراد لقضية اللاجئين أن تُنسى في غياهب أزمة المسار السياسي الذي انطلق منذ ما قبل «أوسلو»، وتحاصر القدس والأقصى بهجمات ميليشيات اليمين الإسرائيلي المتطرفة، وبالضّم والهدم.
وأسئلة كثيرة يمكن أن تطرح، في سياق قراءة هذا المسار، ونتائجه. لكنها عند حركة «فتح»، وقادتها الذين ما فتئ بعضهم يعلن اليوم التزامه بثوابت عرفات، لا تعدو كونها مدخلًا لاستعادة زخم النضال الوطني الفلسطيني، بعمقه العربي، ولكن من دون أي عودة لوصاية على القرار الفلسطيني.
«الخطوة السعودية بربط التطبيع بقيام الدولة الفلسطينية استراتيجية.. ومعلوماتنا أن منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية ستتبنى هذا الموقف»
وعند هذا، يقف الفريق جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة «فتح» مشدّداً، والقيادي الذي رافق «أبو عمار» في سنوات مهمّة وحاسمة من نضاله، ومن نضال الشعب الفلسطيني، من أجل الاستقلال وبناء الدولة وانتزاع الحقوق، يحتفظ بتفاؤل الوطنيّة الفلسطينية، رغم كل ما حدث ويحدث، بل إن فلسطين هي عنوان أي مشروع بمعزل عن أي بعد آخر أيديولوجي، أو سياسي.
وفي حوار مع «القدس العربي»، يرى الرجوب أن الشعب الفلسطيني مرّ بتحديات كبيرة، وتحدي اليوم المتمثل في حرب الإبادة، هي محطة جديدة تقتضي تمسّكا بأهداف «منظمة التحرير الفلسطينية» التي كان لـ»أبو عمار» الدور المركزي في صياغتها، وبإجماع وطني فلسطيني منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعنوانها هو الدولة، فيما عنوان المعركة اليوم هو إفشال مشروع دفن الدولة الذي يعمل عليه الحاكمون في إسرائيل.
والرجوب، الذي دخل المعتقل الإسرائيلي مرّات، وخرج منه في المرة الأخيرة مبعداً من قبل الاحتلال إلى خارج فلسطين ليلتحق بالعمل آنذاك مساعداً لـ»أبو عمار»، يضع عنوانا آخر للمرحلة، وانطلاقا من الأرضية نفسها التي تصوغ المشروع الوطني الفلسطيني وتحميه، وتكيّفه مع الواقع اليوم.
فالقائد العرفاتي، كما يعلن عن نفسه دائماً، يرى أن ركيزة أخرى يجب العمل عليها وتحصينها، وهي الوحدة الوطنية الفلسطينية، والمتمثلة اليوم بإشراك «حماس» في هذا المشروع وأسسه، كما بقية القوى الوطنية الفلسطينية، واستعادة الوحدة السياسية والجغرافية للشعب الفلسطيني، وأنّ هذا ما كان أبو عمار ليفعله لو كان على قيد الحياة.
ويرى الرجوب أن مشروع الدولة اليوم يحظى بتأييد دولي كبير، وبتأييد عربي عزّزه أخيرا الموقف السعودي برفض التطبيع مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأرض المحتلة عام 1967.
وفيما يلي نص الحوار.
بعد خروجك من المعتقل ومع بداية الانتفاضة تم إبعادك، وواكبت هذا الجزء من رحلة الشهيد أبو عمار باتجاه المواءمة بين المقاومة والمفاوضات. إذا أردنا أن نسأل ما هو إرث مشروع الرئيس ياسر عرفات منذ الثمانينيات وحتى اليوم، فماذا يمكن أن نقول؟
أولاً؛ بعد تحرري من المعتقل، ومع بداية الانتفاضة الأولى، تمَّ إبعادي والتحقت بالعمل مساعداً للأخ أبو عمار لشؤون الأرض المحتلة، ومن هنا لا نستطيع فصل الحركة الوطنية الفلسطينية من أواسط الستينيات إلى اليوم عن ياسر عرفات، أو عن حركة «فتح». نعم. النضال الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية كانا الوجه الآخر، والعنصر الثابت، في مسيرة الشعب الفلسطيني، منذ وعد بلفور إلى اليوم، ولكن الحركة الوطنية الفلسطينية التي قادتها «فتح» في الثورة المعاصرة، حملت جديدًا باتجاهين: الاتجاه الأول حدّدت الهدف الذي هو الهوية الوطنية الفلسطينية كعنصر واجب الوجود في معادلة الصراع. الهدف الثاني أن الصدام مع الاحتلال، والبوصلة في مواجهة الاحتلال، هو الخيار والركن الاستراتيجي الوحيد أمام الحركة الوطنية الفلسطينية. ومن هنا، فإن الأخ أبو عمار، ومعه كوكبة من القادة في ذلك الوقت: أبو جهاد، وأبو إياد، وأبو اللطف، وأبو صبري، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، وأبو مازن وأبو السعيد خالد الحسن، وأبو ماهر غنيم، وآخرون، هذه الكوكبة هي التي صمّمت الإيقاع حتى اليوم. الآن، الأخ أبو عمار، سواء كان من موقعه على رأس الحركة، أو في موقعه رئيساً لمنظمة التحرير، هو الذي قاد مسيرة النضال الوطني الفلسطيني والعمل السياسي وأصبحت هذه المسيرة جزءًا أصيلًا في نضالنا وفي معركتنا. لكن السنوات اللاحقة، أضافت تحديات وأهدافًا، وأهمها إخراج الحركة الوطنية الفلسطينية من الوصاية العربية، وتحويلها من ملف اللاجئين إلى قضية سياسية، وإلى قضية دولة، وإلى قضية استقلال.
«الاحتلال فشل في العثور على أيّ طرف فلسطيني يشاركه في دفن الهوية والدولة»
الهدف الآخر، هو الانفتاح على عمقنا الإقليمي والدولي، كفضاء يساعدنا على تحقيق وإنجاز هدفنا الأول الذي هو الهوية الوطنية وتثبيتها وتجذيرها على الأرض. والمقصود تجسيد هذه المسألة ضمن دولة فلسطينية. فنحن، لم نكن نسبح بمعزل عن الفضاء الإقليمي ولا عن الفضاء الدولي. لهذا؛ انخرط الأخ أبو عمار والقيادة الفلسطينية في العمل السياسي والعمل التفاوضي، وهذا أحد التحديات التي واجهناها، ومارسناها كجزء من استراتيجيتنا الوطنية، بأن نحافظ فلسطينيًا على وحدة وطنية فلسطينية، ونحافظ في الفضاء الإقليمي على هذا العمق الاستراتيجي في إسنادنا، وأن يكون حاضنةً لنا. وفي الوقت نفسه، الأخذ بالاعتبار الفضاء الدولي وأثره، وقدرته على التأثير سلبًا أو إيجابًا.
من هنا، تكيّفنا مع التحدّيات ومع الظروف، بمفهوم المساومة الواقعية، التي لها علاقة بإقامة دولة فلسطينية وفق قرارات الأمم المتحدة، كمرجع لحلّ الصراع. وأنا أؤكد مسألتين: الأولى؛ أن الأخ أبو عمار هو الأب الروحي والمؤسس والمفجّر والمكرّس للوطنية الفلسطينية بمفهومها الذي يتضمن الاستقلال وحق تقرير المصير، وفيه أننا أيضًا أسياد أنفسنا، ويجب ألا نستهين بهذا الموضوع. والمسألة الثانية أن الأخ أبو عمار هو الذي قاد المسيرة، في المنعطفات الحادّة، بما في ذلك موضوع الانخراط في المفاوضات، ووفق اعتبارات، وظروف داخلية وإقليمية ودولية. فيما بعد، واصلنا مسيرتنا على قاعدة العودة وبناء سلطة وطنية، وفق قرارات المجلس الوطني، وليس انطلاقا من اجتهاد شخصي. وكنت عضوًا في المجلس الوطني في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1988 عندما اتُخذ قرار الإعلان عن إقامة سلطة في أيّ شبر ينسحب منه الاحتلال، والذي أُخذ بالإجماع.
إعلان الدولة أيضًا..
أعلنّا عن إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية الذي مهّد لإعلاننا عن الدولة، بمعنى أننا نريد أن نبدأ بمنطق التدرّج في الوصول إليها. فيما بعد، كان هناك اتفاق قد يكون ظالمًا هنا أو ظالمًا هناك، ولكن يجب الالتفات إلى موازين القوى ووضع الفضاء الإقليمي وتأثيره. ولكن جوهر الموقف الفلسطيني بقي قائمًا على أساس أن الهوية الوطنية هي الهدف، والصدام مع هذا الاحتلال، هو صدام له تجلياته، سواء في الكفاح المسلح، أو في العمل الدبلوماسي والعمل السياسي. ولكننا، بعد الانتفاضة الأولى، اقتنعنا بأن أحد أهم تجليات الصدام مع هذا الاحتلال هو توفير كل أسباب الصمود والبقاء للفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين التاريخية. وهذه هي الورقة الرابحة القادرة على المدى البعيد على حسم هذا الصراع لصالح قضيتنا العادلة.
إذا أردت أن أسأل من هذه النقطة بالذات، منذ النصف الثاني للثمانينيات وحتى استشهاد أبو عمار، وما بعد ذلك. هذا الخيار باتجاه الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض 1967 مع القدس وكل الثوابت الأخرى في سياسة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. اليوم، بعد أكثر من عام على حرب الإبادة الإسرائيلية، هل هذا الخيار، وخصوصًا في ظل التطورات الدولية المتمثلة بانتخاب دونالد ترامب، لا يزال خيارًا واقعيًا؟
وتيرة هذه الحرب، والتطهير العرقي، واستباحة الضفة، ومحاولات الأسرلة في القدس، بالتأكيد غير مسبوقة في هذا الصراع. ولكن، على مدار 76 سنة ونحن نتعرض لنفس الإرهاب. الآن تشير هذه الوتيرة وإفرازاتها على الأرض إلى ثلاث حقائق لا يمكن نكرانها؛ هل كُسرت إرادة الفلسطينيين؟ أنا أقول لك: لا. بمعنى أن الاحتلال فشل في كسر إرادتنا، وفشل في العثور على أيّ طرف فلسطيني يمكن أن يكون شريكًا له في دفن هدفنا الاستراتيجي الذي هو الهوية والدولة. المسألة الثانية، ذكرت لك في سياق حديثي، أننا في مرحلة ما، اقتنعنا بأن أرقى وأنبل أشكال النضال والصدام مع هذا الاحتلال هو توفير أسباب الصمود لأبناء شعبنا. العامل الديموغرافي هو أكبر تحدٍّ ومصدر قلق لمشروع الاستيطان، ولمشروع نفي فلسطين أرضًا وشعبًا وتاريخًا من الخارطة السياسية. الفلسطينيون الموجودون في فلسطين التاريخية يشكّلون حتى الآن أكثر من سبعة ملايين ونصف المليون، منهم خمسة ملايين ونصف موجودون في الضفة، وقطاع غزة وفي شرق القدس. إذن، العامل الديموغرافي ما زال حاضرًا، وما زال يشكل عنصر أرقٍ لهذا الاحتلال، وهو في سياقه الوطني النقيض الحقيقي لهذا الاحتلال؛ لأن الوطنية الفلسطينية هي العدو الاستراتيجي للاحتلال، وليس أي صيغة أخرى. ومع احترامي لكل البذور، إلا أن البذرة الوطنية الفلسطينية هي النقيض الاستراتيجي والعدو الحقيقي لهذا الاحتلال. إذن، لم يكسر الاحتلال إرادة الفلسطينيين، ولم يستطع أيضًا أن يُزيل هذا العامل الديموغرافي، بل العكس تماماً. وإذا أردنا أن نرجع إلى الفضاء الإقليمي والفضاء الدولي، فإن حالة التضامن اليوم، والتحوّل غير المسبوق لصالح قضيتنا أصبح، أولاً، عنصرًا ضاغطًا على هذا الاحتلال، ولكنه وضع أيضًا هذا الاحتلال، وعدوانه وجرائمه، في حالة صدام مع المجتمع الدولي ومع القوانين الدولية، ومع الشرعية الدولية، ومع قيم العالم، ومع شرعية العالم، وفي حرب مع حقوق الإنسان. هذه العناصر الثلاثة يمكن أن تشكل رافعة في هذه المرحلة، للعودة إلى أن هدفنا ما زال هو إقامة الدولة، والوطنية، والهوية على رغم وجود بعض المسائل التي لها علاقة بالانقسام والشروخ الداخلية الذاتية. ولكن مع كل ذلك، فإن العامل الديموغرافي الفلسطيني ما زال موجودًا، والإرادة الوطنية ما زالت ثابتة، والعودة إلى الوصاية أو غير ذلك غير مطروحة على أجندة أيّ فلسطيني. والعامل الثالث، هو أن الفضاء الإقليمي والفضاء الدولي، أصبح لصالحنا. فلو أردت أن تحاكم مشهد الحرب الدائرة، كان لدى نتنياهو، منذ اليوم الأول ثلاثة أهداف واضحة: الهدف الأول؛ هو دفن فكرة الدولة الفلسطينية إلى الأبد، والهدف الثاني الانخراط في المنطقة بمنطق التطبيع، بالالتفاف على الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية. الموضوع الثالث، أنه وفي سياق استراتيجيته فإنه يسعى، كما يقولون، إلى تحقيق إيقاع استراتيجي في كل الإقليم، بحيث لا يكون هناك أي رفض أو معارضة أو مقاومة، حتى بالكلمة، لدولة إسرائيل. العناصر الثلاثة برأيي فشلت، ولم تتحقق. وكفلسطيني وفتحاوي، وأيضًا كفتحاوي عرفاتي، أعتقد بأن القرار السعودي، بالمفهوم الاستراتيجي، كان، سواء في التوقيت أو في المضمون – وفي التوقيت أي أنه أتى قبل الانتخابات الأمريكية – خطوة اعتراضية أمام أي إدارة أمريكية، سواء مع (الرئيس الأمريكي جو) بايدن و(نائبته كمالا هاريس)، أو مع (الرئيس المنتخب دونالد) ترامب. وبايدن وهاريس أسوأ من ترامب، بعد كل ما قدّماه لإسرائيل وكان أعظم مما قدمته أي إدارة سابقة. أي أنّ موضوع التطبيع، الذي أصبح سيمفونية يعزف الجميع على وترها، لن يكون من دون إقامة الدولة الفلسطينية.
«الوحدة تبدأ بمقاربات بين «فتح» و»حماس»، وبتشكيل حكومة توافق وطني»
وأن يحصل هذا قبل الانتخابات فهو أمر مهمّ. والدعوة إلى قمة عربية إسلامية لتمرير هذا الموقف، سيكون رافعة عظيمة لصالح قضيتنا ولصالح مشروعنا. ونتمنّى أن ينتقل الصراع فيما بعد إلى محافل الأمم المتحدة وإلى مجلس الأمن، لإصدار قرار يتضمن التالي: أول بند، وقف كل الأعمال العدائية الإسرائيلية، ووقف إطلاق النار والعدوان على غزة، ووقف كل أشكال الاجتياحات والقتل والاستيطان والخنق في الضفة الغربية، وفي شرق القدس. ويتضمن إقرارًا بوحدة الأراضي الفلسطينية، وإقرارًا بوحدة النظام السياسي الفلسطيني لكل الفلسطينيين، وإقرارا بمظلّة الرعاية الوطنية الفلسطينية، التي هي الحكومة الفلسطينية التي هي لكل الفلسطينيين، من رفح إلى جنين، مع خطة مارشال لإغاثة غزة وإعادة الإعمار ومع أفق سياسي. وأنت أيضًا كإعلامي، قد تكون لاحظت الجهد الإسرائيلي الأمريكي في محاولة فرض لجنة لإدارة غزة، قبل الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر، كخطوة اعتراضية للمستقبل، وأن ينحصر المستقبل في شكل ومضمون اللجنة التي ستدير غزة بمعزل عن السلطة، وبمعزل عن وحدة الأرض، ووحدة النظام، ووحدة الرعاية، والخدمات.
برأينا، هذا هو ما يمكننا كفلسطينيين وعرب ومسلمين من العمل عليه في المرحلة المقبلة.
باقون في هذه البلاد
إذا كان هذا الموقف العربي برفض التطبيع مع إسرائيل من دون إقامة دولة فلسطينية، يتناقض مع ما يؤكده ليس فقط نتنياهو، وإنما جميع أطياف اليمين الإسرائيلي الحاكم، وأيضًا بعض كبرى أحزاب المعارضة، برفض الدولة الفلسطينية وبمتابعة الاستيطان.. فخلال هذا الوقت، ما الذي سيحدث للفلسطينيين؟
نحن باقون في هذه البلاد، وموجودون ولن نرحل، ولن نتركها. يوجد العامل الديموغرافي كما قلت. وصدامنا هو مع الاحتلال، وهذا الاحتلال بالتأكيد هو احتلال مكلف، وهم يدفعون ثمنه، في وضعهم الاقتصادي، وفي وضعهم الداخلي، وفي علاقتهم مع المجتمع الدولي، وفي شرعيتهم، وشرعيّة وجودهم. وهذا بالنسبة لنا، يشكّل أيضاً أحد الأسباب التي تتيح لنا الاستمرار، بالإضافة إلى إيماننا بعدالة قضيتنا وبقائنا، وبأن الصراع يميل لصالحنا، وليس لصالح مشروعهم التوسعي، ولا مشروعهم الاستيطاني. الموضوع الآخر، أننا على قناعة بأن الخطوة السعودية كانت خطوة اعتراضية، لأن هدف اليمين الإسرائيلي الواضح والمعلن هو التطبيع مع السعودية. وفي الماضي، كان (نتنياهو) يفتي باسم السعوديين، هو وغيره، حتى أطراف أمريكية فعلت ذلك. يوجد سيناتور كان يتحدث بمعزل عن القضية الفلسطينية، ويوحي بأنه يقود الحوار من جانبهم. إخواننا السعوديون، قاموا بخطوة مزدوجة قبل الانتخابات، وأعلنوا أن التطبيع يبدأ بإقامة الدولة الفلسطينية. وهذا كلام عظيم. ودعوا إلى مؤتمر لتحالف دولي تحت شعار حل الدولتين، شاركت فيه تسعون دولة من العالم. كما أنهم دعوا لعقد قمة عربية إسلامية، سترتكز على مخرجات المؤتمر الدولي لحل الدولتين.
وفي حدود معلوماتنا؛ هناك نقاشٌ بينهم وبين الدول الإسلامية الوازنة، على أن يكون هذا هو موقف منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية، وعلى قلب رجل واحد، وينصّ على أن دمج إسرائيل يقتضي إقامة الدولة الفلسطينية. برأينا، هذا قرار استراتيجي، أو خطوة اعتراضية استراتيجية، لمواجهة الرغبة أو الضغط أو الإغراءات من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة وأطراف أخرى، في موضوع انخراط إسرائيل في الإقليم.
أبو غزة.. وأبو فلسطين
في حديثنا عن ذكرى استشهاد أبو عمار، إذا أردنا أن نضيء أكثر على تعلّق أبو عمار بقطاع غزة على المستوى العاطفي، وما يجري في غزة الآن؟
أنا أولًا عرفاتي، ومنحاز للتجربة والمدرسة العرفاتية، التي أعتقد بأنها هي البذرة الوطنية الفلسطينية القادرة على التعبير عن طموحاتنا وتطلعاتنا في كل مراحل التاريخ. والأخ أبو عمار هو أبو الوطنية الفلسطينية، هو أبو غزة، مثلما هو أبو القدس ونابلس والضفة، وغيرها. وأبو عمار أيضًا، عاش طفولته في القدس، والقدس لها مكانة عميقة في وعيه وفي قلبه، القدس والأقصى، وكنيسة القيامة. وأنا متأكد أن الأخ أبو عمار كان سيدير المعركة والجهد في مواجهة هذا الاحتلال، بالمنهجية العرفاتية القائمة على المبادرة والذهاب إلى مكان الصدام، وقيادة المواجهة، من خلال وجوده، سواء كان بالمعنى الشخصي، أو بالمعنى الاعتباري والمعنى المعنوي.
ما زلت أرى بأن المدرسة العرفاتية، كانت وما زالت – ولسنا متأخرين – تقتضي أن نذهب فعلًا باتجاه إنجاز وحدة وطنية فلسطينية، تبدأ بمقاربات بين «فتح» و»حماس»، سياسية، ونضالية، وتنظيمية، ويترتب على ذلك بالتأكيد تشكيل حكومة توافق وطني لكلّ الوطن. وأن يقبل إخواننا في «حماس» بمبدأ وحدة الإرادة، ووحدة النظام، ووحدة الهدف، الذي هو إقامة دولة فلسطينية في حدود عام 67، وحلّ مشكلة اللاجئين وفق قرارات الأمم المتحدة، والقدس عاصمة الدولة.
أعتقد بأن هذا هو الرّد الذي كان يمكن أن يكون، لو كان ياسر عرفات على قيد الحياة، على هذا العدوان وعلى هذا التطهير العرقي، الذي هم (الإسرائيليون) أساتذته في قطاع غزة، وكان هدفهم منذ البداية تهجير الناس، وإرهابهم.
«ماذا كان ردّ عرفات على الإبادة لو كان على قيد الحياة»
وأتمنى، أن ندرك جميعا، كقيادة فلسطينية، أن الوضع ما زال غير متأخر، وأن نذهب إلى حسم المعركة مع هذا الاحتلال وحسم المعركة بمعنى إفشال دفن الدولة الفلسطينية، وبمعنى فرض الحل الواقعي الذي يمنحنا حق إقامة دولتنا المستقلة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967. وأعتقد أن هناك حاجة إقليمية ودولية لذلك، وأن الظروف مواتية، والاحتلال هو الذي في مأزق، سواء في علاقته مع العالم، أو في شرعيته ووضعه الاقتصادي، وفي مواجهة شروخه الداخلية.
تثار أحياناً مقارنات بين ما يحدث اليوم كمحطة، وما حدث في 1982، أو في سنوات الانتفاضة الثانية في مطلع الألفية، وما تلا ذلك. هذان تاريخان، اضطر فيهما الشهيد ياسر عرفات لاتخاذ قرارات كبيرة، سواء باتجاه سياسي أو باتجاه آخر. وإذا أردنا أن نتحدث عن هاتين المحطتين للمقارنة، على أي أسس ارتكز أبو عمار في اتخاذ قراراته؟
الانتفاضة الثانية انفجرت في أيلول/ سبتمبر 2000، باقتحام رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أرئيل شارون الأقصى الاستفزازيّ. وكان الاحتقان موجودًا بعد فشل كامب ديفيد (مفاوضات كامب ديفيد عام 2000)، وكانت الظروف الذاتية التي يعيشها الفلسطينيون تنبئ بانفجار قادم. فأتى من القدس، وفي القدس، وحول القدس. أما بعد فشل كامب ديفيد، وتعرية الموقف، سواء من الإسرائيليين أو الإدارة الأمريكية لناحية رفض إقامة الدولة على كل الأراضي المحتلة، وكذلك في موضوع القدس، فقد كانت المسألة مسألة وقت، ولا علاقة لها بالأخ أبو عمار، ولا بحركة «فتح»، ولا بـ»حماس». كانت حالة إجماع وطني وردة فعل بعد فشل كامب ديفيد، أتاحت لأي قارئ أن يدرك أننا ذاهبون إلى انفجار انتفاضة ثانية.
أما في حرب 1982، فإنّ الأخ أبو عمار، والمنظمة، كنّا في عاصمة عربية، وقاتلنا وصمدنا، وفي النهاية كان هناك اتفاق اقتضى رحيلنا، ولكن فلسطين لم ترحل من وعينا ولا من وجداننا، ونحن يومها لم نغادر فلسطين. ولو سألتني ما هي الإغراءات التي قُدمت للأخ أبو عمار ما بين عامي 2000 و2004، بما ذلك في القمة العربية التي انعقدت في عام 2002 في بيروت، والتي لم يسمح بعض الزعماء العرب للأخ أبو عمار بإلقاء كلمته خلالها. فنحن أيضًا ذاكرتنا قوية، ولا ننسى. قدم الإسرائيليون للأخ أبو عمار كل الإغراءات ليغادر إلى الخارج، وبما في ذلك «القمة»، أي أن يذهب ولا يعود، أو أن يعود إلى غزة، ويقيم هناك. فقال: «أنا هنا، والمعركة هنا، ولن أبرح رام الله، إما شهيدًا أو شهيدًا.» هذا كان شعار الأخ أبو عمار، وهذا كان سلوكه.
وأنا في ذلك الوقت كنت مستشاره للأمن القومي. وحتى عندما مرض في الأيام الأخيرة، أقول لك إنه لم يوافق على المغادرة إلا بعد وجود موافقة إسرائيلية، طبعًا بضمانات من أطراف عربية، وعلى رأسها في ذلك الوقت إخواننا المصريون والأردنيون وآخرون، بأنه سيذهب ويعود. فالأخ أبو عمار بقي محاصرًا إلى أن ترجل بفروسية.
هذا يقودنا إلى السؤال الأخير، اليوم بعد هذه السنوات، وبعد عشرين عامًا على استشهاد أبو عمار، ومن موقعك كمسؤول فلسطيني، هل هنالك جديد في التحقيقات المتعلقة بملابسات استشهاد ياسر عرفات؟
منذ اليوم الأول، كانت لدينا قناعة بأن الإسرائيليين هم المسؤولون عن اغتيال الأخ أبو عمار، وأن وفاته لم تكن طبيعية، وكانت بفعل فاعل، وهذا الفاعل هو هذا الاحتلال. الآن، الأمور معقدة طبعا، المتهم والمجرم معروف، والزّمن أكبر محك للتعرية وكشف الحقيقة.