أمراض وعائلة نازحة بلا مأوى
خاص| صاروخ إسرائيلي يقلب حياة العم أبو محمد وزوجته وبناته الـ7
خاص – راية
رغم المرض والألم، يجِدُ العم بهجت وادي وزوجته جمالات "أبو وأم محمد"، نفسيهما أمام واقع مؤلم، مُطالبين فيه بإعالة 7 بنات وابن وحفيده استشهد والدها خلال حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة.
هذه العائلة نزحت عدة مرات، بدءًا من فرارهم تحت القصف من بيتهم بحي الشجاعية، مرورًا بـ"تل الهوا" ثم المغراقة فخانيونس والنصيرات، حتى استقرت بخيمة داخل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.
وظنت بنزوحها داخل المستشفى أنها بمأمن عن عدوان الاحتلال الذي ارتكب مجزرة مروعة بقصفه مخيم النازحين هذا، ما أدى إلى احتراق مواطنين وخيام، من ضمنها خيمة عائلة وادي بما فيها من أشياء بسيطة.
صاروخ إسرائيلي
فجأة، دون سابق إنذار، عند الساعة الواحدة وعشرة دقائق بعد منتصف الليل يوم الإثنين 14 أكتوبر 2024، استيقظت عشرات الأسر النازحة في المستشفى، على وقع انفجارات وحمم من اللهب والنيران.
دقائق معدودة حتى التهمت النيران كل شيء، حتى أجساد المواطنين الآمنين ومعهم خيامهم، إذ لم تفلح المعدات البدائية المتوفرة في إخماد الحريق وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، ما أدى إلى نتيجة كارثية للغاية.
عدد من الشهداء والمصابين حرقًا في مشهد مروع رآه العالم على شاشات التلفزة، فيما نجا أبو محمد وعائلته بأعجوبة، حيث انتشل بناته وزوجته من ألسنة اللهب التي تمسكت بكل شيء وأحرقته.
ومنذ ذلك الحين، فقدت عائلة وادي، المأوى الذي كان يجمعهم ويأويهم، واضطر الوالدان إلى وضع "البنات" مؤقتا، لدى الأقارب -كل 3 في مكان حتى لا يشكلن عبئًا في ظل الظروف الصعبة-، لحين توفير سكن بديل قريبا.
أحلى بيت بغزة!
"رايــة" قابلت العم أبو محمد وزوجته، على أنقاض الخيمة المحروقة، حيث تجمع عدد من الجيران النازحين حولهما وهما يلتقطان بقايا العفش المُحترق، علها تشكل حجر الأساس لإعادة الحياة للمكان.
الزوجان تحدثًا عن حالهم قبل الحرب، إذ قال أبو محمد بنبرة عالية: "كنا عايشين في شقة كبيرة 225 متر، مبسوطين ومكيفين الحمد لله (..) طلعنا منها تحت القصف والقذائف ونزحنا على الجنوب عشان أحافظ على بناتي وأولادي".
فيما قالت أم محمد: "بيتي كان أحلى بيت بغزة، كنت ساكنة على الطابق الثاني، أنا وأولادي ملمومين مع بعض ما أحلانا ناكل ونشرب"، مستذكرة حياتها بأنها كانت في مثل هذا الوقت من العام تحصد ثمار الزيتون من أرضهم في حي الشجاعية.
بنبرة حزينة، أكد العم أبو محمد ومن بعده زوجته ان بيتهما تعرض للقصف والتدمير، رابع أيام الحرب، المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023، لكنهما يأملان العودة إليه؛ لأن ثمة ذكريات مهمة تحت الأنقاض.
تحت الأنقاض
دخل أبو محمد هذه الحرب بعدة أمراض، لكنه لم يُشعرنا بها، إذ ركز في كلامه على استشهاد ابنه الأكبر وزوج ابنته، ومأساة عائلته وبناته اللاتي تفرقن بعد احتراق المأوى والفراش وأيضا الملابس.
وكان أبو محمد، قبل الحرب، مصابا برصاصتين في الظهر والصدر، وجرى استئصال عدة أعضاء من جسده، مثل الطحال والبنكرياس و17 سم من الأمعاء وأيضا السُرة، ويعاني من قطع في حبل المثانة، ومشاكل في بطنة.
وختم حديثه عن مرضه بقوله: "أنا تعبان، مش قادر أتكلم حتى، لكن المهم الآن عيلتي إلي صارت بدون مأوى".
وأضاف والدموع تذرف من عينيه: "الحرب دمرتني ودمرت داري وأخذت ابني أغلى إنسان عندي، يا ريت كل شيء راح ولا هو استشهد، محمد عمره 24 سنة... الله يرحمك يابا، ما كنت أحتاج حد وانت موجود، كنت تجيب لخواتك كل اشي بدهم إياه".
ويتمنى أبو محمد كما زوجته، نهاية الحرب بأسرع وقت، كي يعودان وينتشلان جثمان ابنهما الشهيد من تحت الأنقاض، إذ ارتقى منذ 4 أبريل 2024، ولم يدفن بعد.
وأكمل أبو محمد: "يا ريت أشوفه وأبوسه وأحضنه وأدفنه، أأه لو متت أنا ولا هو". أما والدة الشهيد، فقد رثته بكلمات ودموع منهمرة، وقالت: "لسا ما دفنته، من 5 أشهر وهو تحت الركام، لكن إذا شفت هيكله العظمي راح أعرفه من أسنانه، هذا ابني، الله يرحمك يما".
وحاولت أم محمد مرارًا العودة إلى غزة، وتخطي حاجز "نيتساريم" الاحتلالي، فكانت تقترب من أقرب نقطة بين مدينة غزة ووسط القطاع، وبأعلى صوتها تصرخ "محمد، يما محمد، يما بدي أكرمك زي أي شهيد، بدي أدفنك"، لا مُجيب، لكنها تقول: "لن أتوقف.. بدي أدفنه".
وبحكم وجودها الدائم في المستشفى، تذهب أم محمد قرب ثلاجات الموتى، لتخفف عن ذوي الشهداء، وتقول لهم: "نيالكم، أقل ما فيها أنتم تودعون أبناءكم وتدفنونهم، لكن أنا ما شفت ابني ولا ودعته ولا حتى دفنته"، مستطردة: "الله يرحم كل الشهداء ويشفى المصابين".
عائلة بلا مأوى
وما دامت الحرب مستمرة، تأبى عائلة وادي كما عائلات غزة، إلا التمسك بالحياة رغم الألم والفقد والإبادة، إذ تريد البدء من جديد وتأسيس مأوى آخر قبل حلول الشتاء.
ومنذ نزوحها الأول، تعتمد عائلة وادي مثل غالبية النازحين، على التكية والمساعدات الإنسانية لمواصلة الحياة اليومية في ظل الحرب، إذ فقدوا مصادر دخلهم مع تعمد الاحتلال تدمير كل مقومات الحياة.
ولدى سؤاله، آثر العم أبو محمد على نفسه مجددا، ولم يطلب علاجا أو متابعة لأمراضه، رغم حاجته الماسة، بل طلب على استحياء خيمة وأمور بسيطة. وقال: "فش حد حاسس فينا، ما بدنا مصاري، بدنا خيمة وطناجر وصحون وغلاية وفراش وحرامات وأواعي لبناتي الصبايا".
وكذلك زوجته الأربعينية، قالت: "الحرب كبرتني 20 سنة، فش عنا اشي، الخيمة كلها انحرقت، يا رب يوقف معنا أولاد الحلال والقلوب الرحيمة، يطلعوا لنا بعين الرحمة، نجيب عفش وخيمة وأواعي تسترنا أنا وبناتي السبعة وبنتي مرت الشهيد وبنتها.. الحمد لله على كل شيء، الحمد لله". ختمت أم محمد ثم تركتنا ذاهبة خلف زوجها نحو بقايا الخيمة المُحترقة علّهم يتعثرون بقطعة ناجية من الحريق.