ذي نيويوركر: جنود الاحتلال العائدون من غزة لديهم تشوش وإنكار وشعور بالذنب
نشرت مجلة “ذي نيويوركر” مقابلة مع الباحث في الهولوكوست أومير بارتوف، الذي التقى مجموعة من الطلاب اليهود المتطرفين في جامعة بن غوريون ببئر السبع، وكانوا من جنود الاحتياط الذين عادوا من غزة.
ويعتبر بارتوف من أهم المؤرخين في مرحلة الرايخ الثالث، وكتبَ، على مدى أربعة عقود، عدداً من الكتب والمقالات عن نظام هتلر، وبتركيز على أيديولوجية النازية ومؤسساتها في ألمانيا، مثل الجيش الألماني.
و ولد بارتوف في إسرائيل، وخدم في جيش الاحتلال، وشارك في حرب عام 1973، ويدرس حالياً بجامعة براون في الولايات المتحدة. وبعد هجمات “حماس”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وردة فعل إسرائيل، التي أدّت لمقتل أكثر من 38,000 فلسطيني، أصبح بارتوف من أكثر الناقدين للحرب، واتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتساءَلَ إن كانت تمثّل إبادة جماعية.
واتصل أيساك كوتينر مع بارتوف، بعد علمه بالمحاضرة والنقاش الذي أداره مع طلاب متطرّفين في جامعة بن غوريون، أنهى عددٌ منهم مهمة في غزة.
وكانت زيارة الجامعة بمبادرة من زميل له، وهو باحث في الجغرافيا، حيث أراد منه تقديم رؤية عمّا يجري في الجامعات الأمريكية من احتجاجات ضد الحرب ومزاعم معاداة السامية فيها.
وقبل المحاضرة بأيام، حصل زميلُه على معلومات حول احتجاج من طلاب محليين، ومن جماعة اسمها “لو أردت”، وهي منظمة متطرفة مرتبطة بوزير الأمن الوطني، إيتمار بن غفير.
ويعتقد بارتوف أن عدداً من الطلاب لم يقرأوا انتقادات بارتوف، ولكن معظمهم حصل على معلومات بأنه وقّع على عريضة ذكر فيها إمكانية ارتكاب إبادة جماعية. ومطالب من الرئيس جو بايدن إعادة النظر في دعم إسرائيل بالسلاح. وتم إخبار أمن الجامعة بالاحتجاج. وعندما حضر إلى قاعة المحاضرة، لم يكن فيها سوى عددٍ من الأساتذة الكبار في العمر، وخارجها كان هناك عددٌ من الحرس. وعندما قدم بارتوف لإلقاء المحاضرة سمع صوت دقات على الباب، وصراخاً، وأنه يجب عدم السماح بالمحاضرة، وأنهم متهمون بالإبادة وليسوا قتلة.
ولم يفعل الأمن شيئاً، حيث قيل للمحاضر وزميله إن الشرطة هي المخوّلة بتفريق الاحتجاج. ولم يرد بارتوف، ولا زميله، هذا الخيار، وقرّرا دعوة المحتجين للقاعة والاستماع إليهم. ودخل بعضهم، إلا أن الجو كان فيه إثارة وغضب، بحيث لم يكن هناك مجال لإلقاء محاضرة. وجرى نقاش بين المحاضر والطلاب. وكان عددٌ منهم قد ذهب إلى غزة، وعادوا للتو من هناك. وشعروا بأنهم متهمون بارتكاب كل أنواع الجرائم. ولهذا حاولوا تبرير أعمالهم أو دحض الاتهامات، حيث قدّم أحدُهم صورة له وهو يطعم أطفال غزة، ليقول إن الحديث عن مجاعة لا أصل له. وقال آخر إن وحدته عالجت فتاة فلسطينية مصابة برجلها، بدون ذكر كيف أصيبت. وقال: “قمنا سريعاً بتقديم كل المساعدة الطبية التي تحتاجها”. وقال: “نهتم بالأطفال، ولسنا وحوشاً”، و”لكن كان هناك تناقضات”.
وعندما تحدث بارتوف عن استخدام جيش الاحتلال القنابل الضخمة، وأنك تقتل أناساً عندما تسقطها، قال أحدهم: “لا، لا هذا ليس صحيحاً، وجئنا للمدارس وهي مليئة بجماعة حماس”، لكن جندياً آخر قال: “حسناً، كنا هناك، ولم نر جماعة حماس”. وعبّروا عن غضبهم من بارتوف، وسألوه: “حسناً، ما الذي تعرفه، فأنت تجلس في مكتبك المكيّف بالولايات المتحدة”، وعندها أجاب: ” في الحقيقة، كنت جندياً، وكنت قائد مجموعة، وجرحت، وكانت حرباً مختلفة، وفي وقت مختلف، ولكنها ليست مثل هذا، ولا أعرف شيئاً حدث مثل هذا”.
وذكّرهم بأنه حقّق في أطروحة الدكتوراه جرائم الجيش الألماني، وفي السنوات التالية؛ ذهب ليحاضرفي ألمانيا، وعندما كان يلقي محاضرته حيث احتشد في الصفوف الأولى محاربون سابقون في الجيش، وكانوا يشعرون بالغضب مما يقول، ويقول أحدهم: “لا شيء مثل هذا حدث في وحدتي”، ويقف آخر ليقول: “ربما لم يحدث في وحدتك، لكنه حدث في وحدتي”. ولهذا كانت هناك مقارنة بشأن ما يقول. وفي أثناء النقاش وقفت امرأة على المسرح، وبدأت تصرخ وتقول إنهم يقاتلون من أجل من قتلوا في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وإن رفاقاً لهم قتلوا وأصدقاء قتلوا، وكانت تصرخ، وكان لدى الكاتب شعور بأنها تعاني من أزمة ما بعد الصدمة.
وعندما سألت المجلة بارتوف عن التناقض في ما يقوله الإسرائيليون، من ناحية أنهم ديمقراطيون، وعليهم الدفاع عن أنفسهم، وأنهم ليسوا قتلة، ومن ناحية أخرى أنهم يقاتلون عدواً شريرا، وعليهم عمل ما يجب عمله، قال بارتوف إن هذا الكلام صحيح، وبخاصة في الجيش الذي يقول إنه الأكثر أخلاقية في العالم. ولكنهم يقولون أيضاً: “حسناً، حماس هم حيوانات، اُنظرْ ماذا فعلوا بنا، علينا تدميرهم. وهم يستخدمون الفلسطينيين كدروع بشرية، وعلى أية حال فهؤلاء الفلسطينيون دعموهم، ولماذا سمحوا لهم بعمل هذا؟”.
ويعتقد الكاتب أن هذا الخطاب ليس نابعاً من الجنود، ولكن معلّقين عسكريين تستضيفهم كلُّ شبكات التلفزة الإسرائيلية، ويرافقون كل وحدات الجيش في غزة، وبالتالي يقولون ما يريد الجيش قوله. مع أنهم يشاهدون الدمار والقتل ونقص الطعام، هم يشاهدون هذا، لكنهم يريدون النظر إلى الوضع بعقلانية. ويقولون: “نحن نهتم بهم، ولا نريد التسبّب بضرر لهم، ونحن هناك لقتل مقاتلي حماس”.
أما الأمر الآخر الذي لاحظه بارتوف، فيتعلق بصعوبة الحياة في إسرائيل اليوم، وأي نوع من الناس أعرف في إسرائيل: “معظمهم من اليسار والليبراليين، وحتى الناس في اليسار، يشعرون بعصبية، وهناك توتر في الجو. وهم يعرفون بما كتب، لكنهم يرون أنه لم يجرب ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فهم في حالة صدمة ومشوَّشون. ولا يريدون الحديث بلغة عقلانية وتحليلية”.
ويشعرون أن وجود أي شخص خارج مدمر لرؤيتهم. وهناك ناس قتلوا في غزة، وشُردوا، لكنهم لا يستطيعون الحديث دفاعاً عن أهل غزة.
ويرى بارتوف أن الإعلام الإسرائيلي لا يقوم بواجبه، والحديث عما يجري في غزة، فهو مهتم بتقديم ما يريد الإسرائيليون سماعه ورؤيته.
وكل ما يشكّل رؤية الإسرائيليين مجموعة من المعلّقين العسكريين المرفقين بالجيش، وينقلون ما يقوله الجنرالات، بدون طرح أسئلة نقدية أو محرجة.
وهناك اليوم الكثير من المحتجين في إسرائيل، إلا أن كل واحد يحتج ضد شيء، فهناك من يريدون تغيير الحكومة، وهناك من يريدون عودة الأسرى، أو من يريدون وقف الحرب، ولا شيء منها عن غزة وأهلها.
فهي عن الحكومة التي ورّطت البلد، وأن الأمور ستسوء في سير الساسة نحو الحرب في لبنان. وهناك خوف كبير في إسرائيل بدون الحديث عن الوضع في غزة تحديداً.
ويرى بارتوف أن الطلاب الذين تحدث معهم عبّروا عن مخاوفهم من العودة مرة أخرى إلى غزة. وقال أحدهم: “ستتم دعوتي مرة أخرى، وفي الحقيقة لا أريد”.
ورغم شعورهم بأنهم يفعلون ما هو صحيح، إلا أنه في ثنايا كلامهم ودواخلهم هناك إحساس بالذنب. فمن وقفوا خارج القاعة، واتهموا الكاتب بالخيانة، ثم وافقوا على الدخول إلى القاعة والحديث، كانوا يريدون الحديث عمّا رأوه هناك في غزة، فالتجربة لم تستقر بعد، ولهذا يعانون من تشوّش في الواقع ولا يكذبون. فهم يعرفون ما يرونه، ولكنهم يفسّرونه بطريقة لا تقدمهم بصورة سيئة، فهم يقولون: “لقد قدّمنا لهم الرعاية”، ولكنهم قد يقولون عنهم بأنهم “حيوانات”، ويقولون أيضاً إنهم دعموا “حماس”، فأشخاص بهذه الحالة لديهم القابلية لقول الكثير من الأشياء المتناقضة. فهم يؤمنون بما يقولون، وخلف الإيمان حالة إنكار، فهم ينكرون ما شاهدوه وجربوه لأنفسهم، وليس لبارتوف.