العيش بوجهين.. ما الذي يقوله علم النفس عن تعدد الشخصيات؟
اضغط الرابط وتعرف على شخصيتك
https://www.16personalities.com/ar
العيش بوجهين.. ما الذي يقوله علم النفس عن تعدد الشخصيات؟
"أجد نفسي أنظر إلى الوجود كأني داخل قبر أو من عالم آخر. كل شيء غريب بالنسبة لي. أنا، كما يبدو، خارج جسدي وشعوري بذاتي؛ أنا فاقد للشخصية، منفصل، انقطعت على غير هدى. هل هذا جنون؟"
كان يوما مرهقا في العمل حتّى بدت عقارب الساعة في الدقائق الأخيرة وكأنها لا تتحرك، قمت بترتيب مكتبك ثم انطلقت في رحلة يومية مدتها نصف ساعة ناحية منزلك الذي يقع في مدينة مجاورة، لكن هذه المرة حدث شيء غريب حقا، إنه يتكرر من حين لآخر لكنه في كل مرة يدفعك للتساؤل، لقد وجدت نفسك أمام المنزل كأن الأمر قد حدث فجأة، أنت تعرف بالفعل أنك كنت تقود السيّارة من العمل إلى المنزل، لكنك لا تتذكر ما حدث خلال قيادة السيّارة أو الأماكن التي مررت بها والسيّارات التي تفاديتها، هل حدث ذلك معك من قبل؟
إنها حالة شائعة، لا بد أنك يوما ما قد شعرت أن نصف الساعة الأخيرة، على سبيل المثال، كأنما لم تكن، لا تتذكر ما حدث بتلك الفترة أو حتّى ما كنت تفعل رغم معرفتك بأنك كنت جالسا هناك تعبث بالكتب، بدا الأمر وكأن عقلك كان يعمل بطريقة الطيّار الآلي، ينفذ كل شيء معتاد بينما أنت لست هنا، غارق فقط في أحلام اليقظة. حالة أخرى شبيهة مررنا بها جميعا، وهي تلك اللحظة القصيرة جدا التي تفقد فيها القدرة على التعرّف إلى محيطك، أنت تجلس الآن في منزلك وهذا الشخص الذي يجلس بجانبك هو والدك، لكن حدث للحظة، بينما تتحدث معه، للحظة قصيرة جدا بحيث لم تأخذ الوقت لتفكّر حتّى، أن تساءلت فجأة: من هذا الشخص؟ وأين أنا؟
"دي جافو" معكوس!
ما حدث في الحكايتين السابقتين هو أنك قد انفصلت لفترة قصيرة عن الواقع المحيط بك، تسمى تلك الحالة بالتفارق/الانفصال، بشكل طبيعي لا تستمر كثيرا وعادة ما يفيق الناس من أحلام اليقظة وحدهم أو فقط حينما يلفت أحد انتباههم بكلمة أو نداء، بعد ذلك يستكملون حياتهم اليومية دون مشكلات، لكن التفارق قد يكون أكثر قسوة من ذلك، في بعض الحالات لا يمكن للشخص بسهولة أن يخرج منه، بحيث يؤثر ذلك على حياته وعمله وعلاقاته، هنا يكون الشخص مصابا باضطراب تفارقي (Dissociative Disorder).
في أثناء تلك الحالة، تنفصل عن أفعالك التي تقوم بها الآن، وعن أفكارك المعتادة، وعن شعورك بالعالم المحيط وإدراكك الحسّي له، وعن هويتك كذلك، عن شعورك بذاتك كشخص يُدعى "عمر"، على سبيل المثال، له مجموعة من الصفات والسلوكيات التي يعرفها ويمارسها مع كل الناس، هناك عدة أسباب متنوعة لتلك الحالة لكن جميعها يرتبط، بشكل أو بآخر، بحادثة قاسية في الطفولة، كإهمال الأهل الشديد، أو الاستغلال الجنسي أو الاضطهاد أو الضرب أو أي حادثة قاسية أخرى، يتصوّر الباحثون في هذا المجال أن هذا الارتباط ناجم عن محاولة عقلك للانفصال عن تلك الأحداث الطفولية القاسية، وكأنها آلية دفاعية تُبعدك عن محيط تلك الذكرى السيئة.
للتفارق عدة أنواع، نختبرها جميعا بشكل طبيعي لكنه قصير لا يؤثر على حياتنا أو يعيقنا عن استكمالها بشكل مقبول، على سبيل المثال في حالة اضطراب الاغتراب عن الواقع (depersonalization/derealization disorder) ستشعر أنك تراقب نفسك من خارج جسمك وكأنك تشاهد فيلما، أو سيبدو الأمر وكأنك تطفو بالأعلى لترى كل شيء، بما في ذلك أنت، يتحرك من وجهة النظر تلك. كذلك يتميز هذا النوع من الاضطراب بظاهرة أخرى نعرفها، لكننا نختبرها للحظات قصيرة، تحدثنا عنها قبل قليل، وهي ما يسمى بـ "جامي فو" (Jamais vu)، وتعني أن تكون في مكان مألوف مع وجوه مألوفة لكنك تفقد صلتك بالمحيط وكأنك تراه لأول مرة، على عكس "ديجا فو" (déjà vu)، وفيه ترى محيطا جديدا تماما لكن تشعر أنه مألوف.
هروب اضطراري
من جهة أخرى يشير فقدان الذاكرة التفارقي (Dissociative Amnesia) إلى تلك الحالة التي تنفصل فيها عن ذكرى بعينها، حادث أليم على سبيل المثال، أو تلك السنوات الثلاثة المحيطة بهذا الحادث، كذلك كل الأحداث والشخصيات المحيطة، كأن تنسى منزل جدتك ووجه أحد أعمامك وكأنك لم تره من قبل، في بعض الأحيان يشعر الشخص بأنه ليس الشخص الذي يعرفه. بمعنى أوضح، قد تكون صيدلانيا ثم يحدث أن تنسى فجأة كيف يعمل هذا الدواء، البنادول مثلا، أو فيما يستخدم وما جرعته، كما يحدث في بعض الأحيان أن تنسى كلمة سر فيسبوك التي تحفظها عن ظهر قلب ثم تتذكرها بعد قليل، في الحالة المتطرفة من هذه الأعراض يوجد اضطراب الذاكرة التفارقي.
في مرحلة ما قد يصل الأمر إلى فقدان كامل لجوانب شخصيتك، على سبيل المثال في حالة الشرود التفارقي (Dissociative fugue) يتطور فقدان الذاكرة إلى فقدان كامل للشخصية، هنا ينفصل الإنسان عن طبيعته، سلوكه المعتاد، لغة جسده، خبراته العملية، وينسى حتّى أصدقاءه وعلاقاته في العمل، يصاحب ذلك سفر إلى مكان بعيد يعيش الشخص فيه بشخصية مختلفة تماما، إحدى أشهر الحالات هي الصحفية(7) جودي روبرتس من "تاكوما نيوز تريبيون" التي اختفت سنة 1985 لتظهر بعد 12 سنة في ولاية آلاسكا تحت اسم "جين دي ويليامز"، شخصية أخرى بعلاقات أخرى وحياة مختلفة.
في كل الحالات السابقة سينفصل الشخص عن الواقع المحيط به بالضبط كما تفعل في حالة انفصالك المنزلية الطفيفة أثناء أحلام اليقظة، في أثنائها تمارس حياتك بشكل طبيعي، كأن تقود السيارة للمنزل، لكن إدراكك منفصل عن ذاتك، في حالات الشرود التفارقي، على سبيل المثال، تصبح شخصا آخر، بينما يظل الشخص الأول في تلك الحالة من أحلام اليقظة طوال الوقت، قد تمتد تلك الحالة من عدة أيام إلى سنوات طويلة.
تعدد الشخصيات
أما الحالة الأكثر قسوة، والأكثر شهرة كذلك، من الاضطرابات التفارقية، فهي اضطراب تعدد الشخصية، لكنه الآن لا يتخذ هذا الاسم، لأنه يُفهم بالخطأ على أنه اضطراب شخصية بينما هو اضطراب تفارقي، لذلك يسمى باضطراب الهوية التفارقي (Dissociative identity disorder)، وفيه توجد في الإنسان الواحد شخصيتان منفصلتان على الأقل، وقد يزيد العدد لكن تظل شخصيتان فقط أكثر سيطرة، تتحكم كل منهما مؤقتا في جسد وعقل المصاب، فتقع كل شخصية منهما في حالة فقدان ذاكرة بينما تعمل الأخرى، حينما تسيطر الشخصية الأخرى على جسدك وعقلك سيبدو الأمر وكأنك كنت شاردا لعدة ساعات أو أيام، بالضبط كما حدث وأنت تقود سيارتك إلى المنزل، سترى هاتفا جديدا أو قطعة حلوة في الثلاجة وأنت لا تتذكر أنك اشتريت أيا منهما.
قد يكون ذلك ظاهرا للمحيطين بالمصاب، لكنك في تلك الحالة تتحوّل بصورة مفاجئة أو تدريجية من حالة إلى حالة أخرى، فتتغير طريقة إدراكك، وتفكيرك، والطريقة التي تشعر بها بالعالم من حولك، سيبدو الأمر وكأنك تتقمص شخصية أحدهم، نحن بالفعل نتعرض لتلك الحالة بصورة غاية في البساطة والقِصَر حينما نشعر فجأة وكأننا نتقمص أحدهم، كان من الأقرباء أو كان أحد المشاهير، لكن في حالة اضطراب الهوية التفارقي فإن الأمر يكون أكثر قسوة وكارثية.
تتكلم الشخصيات المختلفة داخل نفس الإنسان بطريقة مختلفة عن بعضها البعض، تتصرف بطرق مختلفة، وتفكر بطرق مختلفة، كأن يكون لكل منها رأي سياسي أو اجتماعي خاص، بل ومتعاكس، كذلك لها لغة جسد مختلفة، وتتنوع كذلك في العمر، والعِرق، وحتّى الجنس، بمعنى أن ذكرا قد تكون إحدى شخصياته المتعددة هي أنثى، أو أن تكون إحدى الشخصيات هي لطفل في العاشرة من عمره، وترتبط تلك الشخصيات في الغالب بحادث أو صدمة الطفولة التي تلقّاها المريض.
أخطاء في الفهم
دعنا في تلك النقطة نوضح أن أفلام السينما لا تعبر بوضوح عن تلك الحالة، سوف نفرد تقريرا خاصا قريبا لمقارنة اضطراب الهوية التفارقي بين الواقع والسينما، لكن -في العموم- لا تكون الشخصية الجديدة دائما عنيفة بطريقة "دكتور جيكل مقابل مستر هايد"، ذلك مثير دراميا بالطبع، فيظهر كصراع بين الخير والشر، لكن في أرض الواقع لا تكون الأمور دائما كذلك، كما أن الشخصيات الإضافية لا تستمر في التحكم لفترات طويلة، من جهة أخرى لا يرتبط هذا الاضطراب، بشكل كبير، بوجود هلاوس أو حالات هوس أو غيرها من الإضافات الهوليوودية المعروفة.
كذلك فإن أحد الأخطاء الشهيرة في الفهم هي تصوّر البعض أن هناك انفصالا تاما بين الشخصيات في نفس الإنسان، الأمر يحدث بطريقة تبدو كذلك، لكن دعنا نتعامل معها كحالات متعددة للذات نفسها، قد تكون مكتئبا في بعض الأحيان، أو تشعر بالعظمة، أو تتشكك قليلا، من خلال وجهة نظر كل من تلك الحالات يمكن أن تعبر عن ذاتك، في حالة تعدد الشخصيات يحدث ذلك، لكن بصورة أكثر قسوة، ولفترات أطول في الزمن، وبدرجة من الانفصال عن ذكريات الحالة السابقة.
في كل الأحوال فإن اضطرابات التفارق، وعلى رأسها تعدد الشخصيات، أو اضطراب الهوية التفارقي، لا توجد كحالة واحدة ثابتة، وإنما تمتد في مدى واسع بين وضع مثالي لا تظهر فيه أي أعراض، وهو أمر نادر، إلى وضع مثالي في الجهة الأخرى تتطرف فيه كل الأعراض، وهو أيضا نادر، وعلى الطبيب أن يحدد الفارق بين الحالات المرضية والحالات الطبيعية، لكن -صدق أو لا تصدق- ننفصل جميعا، بدرجات متفاوتة، عن الواقع من حولنا، نشرد قليلا لنتجول في عوالم مختلفة، ثم نعود من جديد.