الخطر الصامت في الأغوار.. شجرة النخيل نعمة أم نقمة؟
حمزة زبيدات: مجلة آفاق البيئة والتنمية
ارتبطت شجرة النخيل منذ آلاف السنين بتاريخ وإرثٍ مقدس في أرض فلسطين، إذ ترتبط بإحدى أهم المناسبات في الدين المسيحي وهي مناسبة "أحد الشعانين"، الذي يحتفل فيه أبناء شعبنا بذكرى استقبال السيد المسيح بحمل سعف النخيل بينما كان يدخل إلى القدس.
كما أن للشجرة وثمارها قداسة كبيرة في الدين الإسلامي، إذ ذُكرت في القران الكريم في أحداث ميلاد السيد المسيح في مدينة بيت لحم في الآية الكريمة: “وهزّي اليكِ بجذع النخلة تساقِط عليكِ رُطباً جَنياً".
حتى يومنا هذا، ظلّت هذه القداسة محفوظة ومتوارثة، الا أن ظروفاً جديدة طرأت على فلسطين وعلى منطقة الأغوار من الناحية البيئية والمناخية، جعلت من الضروري إعادة تقييم التطورات الزراعية في منطقة الأغوار.
تعد زراعة النخيل إحدى أهم الزراعات في منطقة الأغوار تاريخياً، لكنها بقيت مقتصرة على مناطق محدودة ومحددة داخل مدينة أريحا فقط.
بدأ هذا القطاع في الازدهار مطلع السبعينيات مترافقاً مع تزايد توافد المستعمرين اليهود إلى منطقة الأغوار، حيث استقدم المستعمرون نوعاً جديداً من أشجار النخيل وهو "شجرة المجهول" أو "المجول"، التي يختلف الباحثون حول موطنها الأصلي.
فهنالك من يردّ أصلها الى العراق، في حين يرى آخرون أن أصلها يعود الى المغرب، بينما يُصر بعضٌ أن موطنها الأصلي هو الجزيرة العربية ثم انتشرت في المناطق الأخرى، ولذلك صار اسمها "المجهول".
مع تزايد التوسع الاستعماري الذي سيطر على 88.3% من مساحة الأغوار الإجمالية، والإجراءات التي تتمثل في منع الفلسطينيين من الوصول الى مصادر المياه السطحية أو الجوفية في نهر الأردن والينابيع الطبيعية، إضافة إلى منع ترميم الآبار التي حُفرت غالبيتها في العشرينيات والثلاثينيات، كذلك منع المزارعين الفلسطينيين حتى من أبسط أشكال الحصاد المائي التقليدية التي مارسها المزارعون القدامى بأشكال مختلفة لمئات السنين، هذه الأسباب مجتمعة كشفت واقعاً زراعياً فلسطينياً هشًا، وتنذر بمستقبل خطير على مستوى السيادة الغذائية.
في حين بقيت زراعة أصناف النخيل التقليدية في أريحا مثل "البرحي، وديك النور، والحلواني وغيرها"، كانت زراعة نخيل المجهول حكراً على المستعمرين اليهود وممنوعة على الفلسطينيين حتى بداية التسعينيات، حين بدأت زراعة نخيل المجهول تنتشر إلى حد كبير.
يؤكد محمد القواسمة رئيس جمعية مزارعي النخيل في الأغوار، في حديث مع مراسل "آفاق البيئة والتنمية" الارتفاع الملحوظ في مساحات زراعة النخيل في محافظة أريحا والأغوار في السنوات العشرة الأخيرة قائلاً: "في العقد الأخير ازداد توجه المزارعين نحو النخيل، ويصل عدد أشجارها حالياً نحو (320 ألف) شجرة".
وإضافة الى هذا العدد من الأشجار في المناطق الفلسطينية، يسعى المستوطنون إلى استكمال زراعة مليون شجرة في الفترة القريبة القادمة، تبعًا لحديثه.
إن هذا الكم الكبير من أشجار النخيل، من وجهة نظرنا يستدعي قرع ناقوس الخطر لأسباب عديدة، أهمها:
أولاً: تراجع كميات مياه الشرب والمياه الزراعية في مناطق الأغوار، وذلك لأسباب عدة أهمها إجراءات الاحتلال التي تمنع الوصول الى المياه الجوفية، فضلًا عن التغيرات البيئية والمناخية التي تأثرت بها منطقة الأغوار، مؤدية الى ازدياد مقلق في التصحر.
بدوره، يقول إبراهيم دعيق الخبير الزراعي والمختص في مجال النخيل: "تحتاج شجرة النخيل الواحدة كمية مياه تتفاوت من 115 إلى 130 مترًا مكعبًا سنوياً، ويحتاج الكيلو غرام الواحد من التمر الى كوب من الماء طوال العام، وزد على ذلك كميات أخرى من المياه لإجراء ما يسمى عملية غسيل التربة، خاصة في مناطق شرق أريحا التي تقف على طبقة ملحية صمّاء".
ويضيف: "ما يزيد الأمر سوءًا هو أن غالبية الآبار الزراعية مالحة في المحافظة، ما يعني استهلاك كميات مياه أكبر".
علماً أن هذه الأرقام هي الكميات التي يُنصح بها لري النخيل، بينما في الواقع كميات المياه المستهلكة لري النخيل هي أضعاف هذه الكمية، وقد لاحظنا أن طريقة الري في مناطق وسط الأغوار لا تعتمد على طرق وحسابات علمية. ففي قرية الزبيدات وهي إحدى القرى التي تحولت كاملة تقريبًا من زراعة الخضراوات إلى زراعة النخيل، ويضخّ بئران فيها حوالي 125 مترًا مكعبًا/ ساعة، وفي هذه القرية يعتمد المزارعون على عدد ساعات الري وليس الكمية اللازمة.
يحدثّنا سلامة زبيدات أحد المزارعين من قرية الزبيدات: "يروي بعض المزارعين النخيل بمعدل ( 7.5– 8 متر مكعب) للشجرة الواحدة أسبوعياً، ويسمّدون الأرض بما يتفاوت من 5 إلى 8 كلغم للشجرة الواحدة من الأسمدة الكيميائية سنوياً، هنالك مشكلة، الخبراء الزراعيون يخبروننا بأن هذه الممارسات تضر التربة وتزيد نسبة ملوحتها، المزارعون يعرفون هذا، لكنهم لا يلتزمون بكميات محددة".
إذن واضح من كلام هذا الرجل، أن المزارعين في هذه المنطقة يستهلكون أكثر من ثلاثة أضعاف كمية المياه التي يوصي بها الخبراء لري النخيل.
ثانياً: زيادة ملوحة التربة: حيث تتجاوز نسبة الملوحة في أغلب الآبار الزراعية في منطقة الأغوار 2000 (إجمالي الأملاح الذائبة-TDS) بحسب الخبير الزراعي دعيق، ما يعني استهلاك المزيد من كميات المياه، التي بدورها تؤدي إلى زيادة ملوحة التربة، وبخاصة أن المزارعين لا يقومون بأي إجراءات من شأنها تخفيف نسبة الملوحة.
ثالثاً: تلويث الهواء والتربة، تنتج أشجار النخيل كميات هائلة من السَعف سنوياً، يحرقها المزارعون في مناطق مخصصة بالقرب من المزارع، ويقطعون (8 – 10) من سعف النخيل سنوياً من الشجرة الواحدة، أي حوالي (3 ملايين) من السعف، ولكم أن تتخيلوا حجم ثاني أكسيد الكربون الذي يَنتج بسبب حرق هذه المواد، وكذلك المادة السكرية "سيليلوز" التي تنتج عن عملية الحرق وتتجه إلى التربة والمياه الجوفية.
يا لها من كارثة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، علاوة على ذلك، فإن احتراق المواد العضوية وهي الأوراق هنا، عادة ما يطلق نوعاً غريباً من الملوثات يسمى "الديوكسين"، وهو ملوث شديد السميّة للكائنات الحية، حتى وإن كان بكميات ضئيلة، إذ يمكن أن تتراكم الأبخرة السامة المنبعثة من حرق الأوراق في التربة أو أي مسطحات مائية قريبة، مما يضرّ بالحياة المائية، ويؤثر سلباً على التنوع البيولوجي.
رابعاً: ضرب مبدأ السيادة الغذائية: يناضل الشعب الفلسطيني من أجل هذا المبدأ في بلد يُطبق الاستعمار خناقه عليه، إن زراعة النخيل على حساب الخضراوات والمحاصيل الزراعية الأساسية يعني حرمان السوق الفلسطيني والمائدة الفلسطينية من عدة أصناف زراعية رئيسة اشتهرت بها منطقة الأغوار، هذه الأصناف تُعوّض في غالب الأحيان من المنتجات الإسرائيلية، ما يعني مزيدًا من التبعية لاقتصاد الاحتلال، وبخاصة أن التمور ليست من الأصناف الأساسية على المائدة الفلسطينية، بل بالإمكان استيرادها، لو لزم الأمر.
يرى عديد من رجال الأعمال والمزارعين، ومنهم محمد القواسمة رئيس جمعية مزارعي النخيل في الأغوار أن المشكلة ليست في عدد أشجار النخيل، موضحة: "المشكلة برأيي تكمن في الممارسات الزراعية الخاطئة التي يمارسها المزارعون وخاصة في مناطق شمال محافظة أريحا والأغوار، التي لا تخضع للرقابة والتفتيش الكافية، في المقابل هنالك عدد من الممارسات الزراعية المتوازنة التي يمكن أن يستخدمها المزارعون لتقليل نسبة الملوحة في التربة، وكذلك تقليل نسبة استهلاك المياه بتطبيق ممارسات علمية حديثة وسهلة".
إن أخطار زراعة النخيل بكثافة على المياه والتربة والبيئة والاقتصاد تبدو جلية، وتستدعي من الجهات ذات الاختصاص التدخل العاجل، ووضع الحلول البيئية المناسبة، عبر تدخلات من شأنها ضمان تحقيق ذلك.
ونورد هنا بعض التدخلات العاجلة التي من الممكن أن تتجه إليها الحكومة أو الجهات المعنية عمومًا، على النحو الآتي:
أولاً: فرض المجالس القروية والبلدية والأجهزة الشرطية المختصة في منطقة الأغوار، الرقابة، وتفعيل المخالفات المستندة إلى القانون الخاص بإدارة مصادر المياه في الأراضي الفلسطينية.
ثانياً: توفير الدعم الفني والمعرفي اللازم للمزارعين حول الأساليب الزراعية البيئية الحديثة، التي تقلّل من نسبة استهلاك المياه في العملية الزراعية.
ثالثاً: تقديم الدعم الأكبر للجهات الزراعية مثل وزارة الزراعة، من أجل توفير مشاريع إعادة التدوير والاقتصاد الدائري في مجال زراعة النخيل.
رابعاً: تغليظ العقوبات بحق المزارعين المخالفين للقوانين، وتحديدًا الذين يحرقون السعف.
خامساً: اتبّاع الأساليب الزراعية التقليدية فيما يخص "كسر التربة المالحة"، بإضافة المعادن والأسمدة العضوية.
سادساً: تشجيع الزراعة البيئية المترافقة في مزارع التمور، لا سيما المزروعات التي تمتص الملوحة، مثل البرسيم والشعير.
سابعاً: تحفيز القطاع الخاص للاستثمار في مجال الزراعات البيئية والاقتصاد الدائري، والاستفادة من مخلفات أشجار النخيل.
بعض الدول تعتمد على إستراتيجية مكافحة التصحر بزراعة النخيل في المناطق الصحراوية البعيدة عن مصادر المياه، التي فقدت الدول الأمل في إيصال المياه الجارية إليها سواء من البحار أم الأنهار أم حتى السدود.
إلا أن الدول الصغيرة التي تتميز بحيازات زراعية صغيرة وخصوبة تربة عالية، تقضي على مستقبل سيادتها الغذائية إذا ما استسلمت لجشع رجال الأعمال والمستثمرين الذين يضعون التصدير والأرباح الجشعة أولوية لمشاريعهم.
إن هدفنا من إثارة هذه القضية هو الحفاظ على ما تبقّى من الموارد الفلسطينية، التي يستنزفها الاحتلال استنزافًا صارخًا، كما أن قضية المياه في الأغوار ليست ترفاً، وإنما تمس الوجود الفلسطيني مباشرة.
كما أننا نسعى باستمرار، وبالتعاون مع جميع الأطراف المعنية، إلى تطوير قدراتنا في معالجة المشكلات البيئية والتغيرات المناخية التي تؤثر في فلسطين، وكما هو واضح أنها أثرّت في التنوع البيولوجي وحجم الموارد، والطبيعة، وارتفاع درجات الحرارة ارتفاعًا غير مسبوق.
وفي الخلاصة، يمكننا القول إن شجرة النخيل، مع الممارسات الحالية وسوء التخطيط وغياب القانون، تشكل كارثة بيئية يجب الوقوف عندها، إلا أننا في الوقت ذاته نستطيع تدارك الأمر للحفاظ على قداستها وقيمتها وجعلها كنزاً، وليس نقمة على الأرض والإنسان.