الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:49 AM
الظهر 11:25 AM
العصر 2:17 PM
المغرب 4:42 PM
العشاء 6:01 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

من جدوى المحصول الواحد إلى اقتصاد الحقل الشامل

التعاون في العمل الفلاحي
التعاون في العمل الفلاحي

سعد داغر

خاص بآفاق البيئة والتنمية

"خلّي الزيت في جراره، لتيجي أسعاره".. مقولة تحكي قصة الفلاح في مواجهة تدني أسعار الزيت، أو ربما هي في الغالب رفض لتحكم التجار في أسعار الزيت في الموسم، حين يكون الإنتاج جيداً على المستوى العام، ويُقصد بتلك المقولة ترك الزيت مخزوناً حتى تأتي أسعار أفضل من الأسعار المطروحة.

هذا كان حال الفلاح، الذي تميز بقدرته على الانتظار، لم يكن على عجلة من أمره رُغم حاجته للمال، ولكن في هذا كان لا بد من سر يجعل الفلاح قادراً على الصمود إلى حين أن تأتي الأسعار التي تناسبه.

وقال الفلاح أيضاً: "القمح والزيت، عمارة البيت"، أي بوجود القمح والزيت يبقى البيت عامراً بالخير، فهما أساس حياة البركة والوفرة عنده.

 وكان الفلاح إلى جانب ذلك، يحمل في جيبه صباحًا القطّين "التين المجفف"، الذي ينتجه من أشجار التين المزروعة بين الزيتون، ورغيف مدهون بالزيت يخبزه من قمح يزرعه في الفراغات بين خطوط الأشجار، فيكون قوت يومه في أثناء عمله في الحقل.

زيت وقمح وقطّين هي ثلاثية ينتجها من حقله بنفسه، إلى جانب الكثير من المحاصيل، وتحمل سر حيويته ونشاطه، وقبل ذلك سر حرية الفلاح، ولعل كثيرين لا يعرفون أغنى وجبة غذاء، مكتملة الأركان والعناصر، التي تميّز بها الفلاح وهي "البسيسة"، ومكوناتها طحين القمح الكامل وزيت الزيتون، حيث يُخلطان معاً، وتؤكل تغميساً بالقطّين.

 ليس هذا فحسب، بل كان ينتج من حقله المتنوع محاصيل أكثر من ذلك بكثير، وهنا يكمن سر المرونة، والقدرة على الصمود في انتظار الأسعار المجزية.

أسباب فشل المحصول الواحد

في عصرنا برز مفهوم "دراسة الجدوى"، وفي الجانب الزراعي "دراسة الجدوى الاقتصادية للمحصول الواحد"، واتجهت المشاريع الشخصية والجماعية نحو زراعات أحادية، بعد إجراء دراسات الجدوى الاقتصادية، التي تثبت أن زراعة محصول ما، ستحقق الدخل المالي المطلوب لصاحب المشروع، وتحقّق الجدوى المالية والدخل المأمول من زراعة هذا المحصول أو ذاك.

غير أننا وفي كثير من الأحيان نشهد فشل مشاريع زراعية بعد فترة زمنية قصيرة من بدئها، مع أن دراسة الجدوى الاقتصادية أثبتت أن زراعتها ستعود بالربح والدخل الوفير على أصحابها، الذين غالباً ما يستعينون بالمختصين لإجراء تلك الدراسات، والسؤال الذي يقفز للذهن هنا: "لماذا تفشل مشاريع زراعية في زراعة محصول محدد، أثبتت الدراسة جدواها الاقتصادية؟

ما الذي يوصل أصحاب مشروع إلى حالة إحباط، تدفعهم للتوقف عن زراعة ذاك المحصول "المجدي اقتصادياً"، كما أثبتت الدراسة؟

ولماذا لم يكن "الفلاح" يفشل في مشروعه الزراعي دون أن يجري دراسة الجدوى تلك، بينما كثيراً ما يفشل "المزارع" في محصوله الوحيد، "ذي الجدوى"، بل يتوقف بعضٌ عن رعاية أرضه وزراعتها وقد يهجرها نهائياً؟

لعل الإجابة تكمن في السؤال ذاته، فالحديث هنا يدور عن محصول واحد يعتمده "المزارع"، بما يخالف مبدأ عمل "الفلاح"، الذي لم يكن في تقليده الزراعي كافٍ للعيش والاستمرار، فأيُ اعتمادٍ على محصول واحد!، وكأنه أدرك جيدًا ما قاله الشاعر:

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا       وإذا افترقن تكسرت آحادا

وفي الزراعة، حين تتفرّق المحاصيل، ستحمل بفرقتها أسباب الفشل، فالاعتماد على محصول واحد، سيجعل المزارع عرضة في غالب الأحيان إلى أسباب كثيرة للخسارة، أولها ضعف المحصول الواحد في الصمود أمام العوامل الخارجية كالأمراض والحشرات، التي ستكلّف المزارع أكثر مما كان في حسابه، حيث تزداد قوة مهاجمة الآفات للمحصول حين يكون وحيداً، على مجمل مساحة المشروع، وبالتالي سيحتاج للاعتماد على وسائل وقاية وحماية للمحصول، لها بداية وليس لها نهاية.

 وسائل وقاية و"علاج" تستنزف المزارع مادياً وصحياً ونفسياً، وتستنزف التربة وصولاً لموتها لاحقاً، لتزيد من استنزاف أموال المزارع، حين يصبح مجبراً على ضخ الأسمدة الكيميائية، التي ستزيد من استنزاف وموت التربة أولاً، وتزيد من أسباب ظهور آفاتها الصعبة وغير القابلة للعلاج ثانياً.

 سبب آخر من أسباب الفشل، وهو السوق والمتحكمين في الأسعار، الذين يسعون بكل حيلة إلى انتهاز المزارع عن طريق افتراس محصوله الوحيد بأقل الأسعار، حيث لا قوة للمزارع للوقوف أمام هذا التيار الاستغلالي، حين يكون مجبراً على بيع المحصول في الوقت المحدد، عند نضجه دون تأخير، وإلا فإن خسارة الإنتاج تكون هي مصير ذلك المحصول.

وفي كلا الحالتين يصبح مصير المزارع على "كف عفريت" كما يقال، حين يصبح مثقل الكاهل بسبب الديون، التي يتحملها بسبب المواد الكيميائية التي ستزداد الكمية المستخدمة منها باستمرار، مع اضطراره لإدخال أنواع جديدة.

وهنا يقفز سؤال آخر "تُرى هل كان الخلل في دراسة الجدوى، أم في الفكرة الأساسية التي قامت عليها والمتمثلة في المحصول الواحد؟".

مَنعة الفلاح

لعل المدخل إلى زيادة منعة "المزارع" وصموده أمام المتغيرات المختلفة، يكون في التخلي عن كونه "مزارعًا" بسطحية الفكرة، القائمة على أحادية المحصول، والانتقال إلى الجوهر نحو التحول لفلسفة حياة "الفلاح"، بعمقه القائم على تنوع الإنتاج، الذي يحمل في جوفه تنوع الخيارات، فيبني قوة المرونة وصلابة الصمود في وجه المتغيرات، بدءاً بالسوق وانتهاءً بتأثيرات تغير المناخ.

وهنا تأتي الفكرة الأساسية، ليس باعتماد الجدوى الاقتصادية للمحصول الواحد، وإنما الجدوى الاقتصادية "للحقل الفلاحي"، فكرة عمادها تنويع الزراعات في إطار الحقل الواحد، مهما صغرت مساحته أو كبرت.

مدخل كهذا لمفهوم الجدوى الاقتصادية للعمل الزراعي، يتطلب تغييراً جوهرياً في النظر للمسألة الزراعية برّمتها، والانتقال من سياسة تشجيع مزرعة المحصول الواحد، إلى سياسة "المزرعة الشاملة المتنوعة".

ولو ضربنا مثلًا على التدهور المحزن في العلاقة بين أبناء الفلاحين والزيتون، سنجد سبباً أو ربما ذريعة أساسية تقول إن الزيتون لم يعد مجديًا اقتصاديًا، وهو لا يغطي تكاليف الإنتاج، المرتبطة بالحراثة، والتسميد، والتقليم والقطف وغيرها من الأعمال كبناء الجدران المتهدمة.

 ورغم الأبعاد الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار كالقيمة الاجتماعية والبيئية والوطنية لأشجار الزيتون، إلا أن المراقب لأحوال الزيتون تجده متفقاً مع الذرائع التي تُساق لتجنب الاعتناء بالزيتون.

ولكن، عند الانتقال إلى المدخل الآخر، واعتماد سياسة "المزرعة الشاملة المتنوعة" يصبح الزيتون محصولاً يشكل واحداً من مجموع المحاصيل، يمكن زراعتها وإنتاجها من نفس الحقل، ففي الكثير من حقول الزيتون خاصة المزروعة قديماً، ما زالت المسافات بعيدة بين الأشجار، ما يسمح بإضافة محاصيل أخرى كالزعتر، والميرمية، وزراعة الثوم والبصل والبطاطا، وإعادة زراعة التين والعنب بين الزيتون وعلى أطراف الحقل.

انطلاقاً من ذلك، لن تبقى مسألة "الجدوى" مرتبطة بالزيتون، بل بمجمل الحقل كونه وحدةً إنتاجية، ما قد يعيد بعض أبناء وبنات الفلاحين إلى العناية بالحقول من جديد، حين يصبح الحقل مصدراً لمنتجات متعددة متنوعة، وتُنتج في مواعيد مختلفة، ما يدعو الفلاح إلى زيارة حقله على مدار العام، لأن في ذلك "جدوى اقتصادية"، إذا أردنا النظر للمسألة من الباب المالي فقط، لكن الأمر لا يتصل بهذا فقط، وإنما بقدرة الفلاح على الاستمرار والبقاء في عمله الفلاحي ضمن منظومة اقتصادية واجتماعية وتعاونية، مع تحقيق العائد المطلوب من حقل الزيتون المتنوع.

إن العلاقات الاجتماعية في منظومة الحياة الفلاحية كانت تقوم على قيم التعاون، مقابل قيم التناحر، التي خلقتها منظومة "أحادية المحصول"، فكما هو المحصول الفردي، تنشأ العقلية الفردية بدلًا من الجَمعية التعاونية في حياة الفلاحين.

مثل هذا التوجه يتطلب من المؤسسات التنموية العاملة في القطاع الزراعي، إعادة النظر في تدخلاتها، لزيادة جدوى عملها من جهة، ومن جهة أخرى وضع التدخلات المطلوبة لتحقيق هذا التوجه في خدمة الفلاحين، فماذا يتطلب ذلك؟

دعم الفلاحين وسياسة الحقل المتنوع الشامل

لعل أكبر مشكلة يعاني الفلاحون منها، هي مشكلة عدم القدرة على حماية الحقول من الحيوانات البرية والأليفة كالخنازير والأغنام، مشكلة أوصلتهم لحالة يأس من القدرة على الاستمرار في رعاية الحقول، وباتت تحول بينهم وبين العودة لسياسة "الحقل المتنوع الشامل"، وتمنعهم من زراعة الكثير من المحاصيل، خاصة الحبوب.

وفي هذا الجانب فإن أولى الخطوات لتحقيق هذه السياسة، مساعدة الفلاحين على حماية أراضيهم، وهي عملية تتطلب إنفاقاً أقل من ذلك الذي تحتاجه عمليات استصلاح أراضٍ جديدة، وزراعتها (وهذا لا ينفي ضرورة وأهمية عملية استصلاح الأراضي الجديدة)، وهي لا تحتاج من الفلاح الانتظار لسنوات عديدة حتى يبدأ في جني المحاصيل، كون الزيتون (أو غيره من الأشجار المثمرة) موجود أصلاً وهو في مرحلة الإنتاج.

الخطوة الثانية، تتطلب مساعدة الفلاحين على إعادة التنوع في الحقل، وكما ورد أعلاه يمكن إضافة أشجار مثمرة في الفراغات بين الأشجار الموجودة، تبعاً للظروف المناخية السائدة في الموقع، فبعض المناطق ينجح فيها أصناف من التفاح لزراعتها بين الزيتون، ومناطق أخرى يمكن فيها زراعة المشمش والدراق والتين والعنب.

 هذا التنويع يحتاج إلى توفير الأشتال دون شروط الزراعة الأحادية أو شروط أن تكون الحقول مستصلحة حديثاً، وفي حال زراعة نباتات الزعتر بأنواعه والثوم والبصل والبطاطا والجزر والحمص، تكون هناك حاجة في الموسم الأول لتوفير الأشتال و"التقاوي" للفلاحين لينطلقوا في عملهم.

ثالثاً: مع ما تشهده منطقة حوض المتوسط من اختلالات مناخية، تصبح قضية توفير مصادر مياه لري تكميلي بالغة الأهمية، وتشكّل واحداً من أسباب النجاح في توجه كهذا.

وليس بالضرورة الاعتماد فقط على الري التكميلي، بل يمكن التوجه نحو تدريب الفلاحين على أساليب تساعد على حفظ مياه الأمطار في بطن الأرض، داخل التربة لأطول فترة ممكنة، ومنع تسرب المياه وجريانها خارج الحقل، وذلك باتبّاع منهجية "احتضان مياه الأمطار في الطبيعة"، عبر إجراءات بسيطة غير مكلفة، بعمل قنوات المستوى (خطوط الكنتور)، والهلاليات، وسدود صغيرة ومتناهية الصغر في مجاري المياه، وتغطية سطح التربة بالقشّ وبمخلفات الحيوانات لزيادة المادة العضوية في التربة، التي تزيد من قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه، وتساهم في بناء الطبقة الإسفنجية للتربة لامتصاص المزيد من مياه الأمطار.

النتيجة

ماذا يجني الفلاح من ذلك كله؟ بدايةً، وقبل كل شيء سيعمل الفلاح دون قلق من فشل أحد المحاصيل، لأن فشل محصول سيعوضه نجاح محاصيل أخرى.

وسيغدو الفلاح قادراً على مواجهة سياسة التحكم في الأسعار، فتنوع الإنتاج يتيح له القدرة على التفاوض وانتظار السعر المناسب، كما أن اختيار المحاصيل القابلة للتخزين الطويل دون الحاجة لغرف التبريد، سيساعد كثيراً على انتظار العائد الأنسب.

 إن اتباع أساليب زراعية طبيعية والتنويع الزراعي، سيمّكن الفلاح من مواجهة التغير المناخي كما ذكرنا آنفاً، فبعض المحاصيل سيتسنى لها الاستمرار في ظروف مناخية قاسية متغيرة.

ولعل البعد الاجتماعي أصبح أكثر إلحاحاً؛ في عصر أصبحت صفة التناحر والتنافس هي الأكثر حضوراً في العلاقات البشرية، في وقت نفتقد فيه بشدة علاقات الألفة والتعاون.

ففي جوهرها، تقوم سياسة "المزرعة المتنوعة الشاملة" على عقلية تسمح ببناء علاقات التعاون والتجاور والمساعدة بين المحاصيل والمزروعات، وعلاقة التوازن والانسجام مع مختلف مكونات النظام الطبيعي داخل الحقل، هذه العقلية في العمل الفلاحي تبني ألفة وتعاونًا بين الفلاحين، فما تمارسه في حقلك من رعاية وقبول للتنوع بين المزروعات، سينعكس على علاقاتك مع المحيط وقبول التنوع، والعمل التعاوني، الذي يبدأ بالمساعدة في الأعمال الحقلية؛ ولا ينتهي بتبادل البذور والغلال والمحاصيل، والمقايضة، وكذلك تبادل الأدوات اللازمة للعمل، والأهم تناقل وتبادل الخبرات والتجارب.

Loading...