كيف أرهق الاحتلال غزة في العدوان الأخير؟
فاطمة زكي أبو حية - خاص بآفاق البيئة والتنمية
- "ضاع تعبنا، تحملّنا البرد، وعملنا تحت المطر، أتكون هذه النتيجة؟".
- "اصبر يا ابني، نحن بخير الحمد لله، غيرنا انهارت بيوتهم فوق رؤوسهم واستُشهدوا".
إنه جزءٌ من الحوار الذي دار بين "عبد المالك العطار" وابنه "محمد" ذي الستة عشر عامًا، عندما دخلت الأسرة مزرعتها بعد وقف إطلاق النار في نهاية العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.
كان "محمد" يردد تلك الكلمات بحسرة، ويصبّ جام غضبه على ما تبقى من ثمار الشمام التالفة، يقتلعها بيديه علّه يفرّغ شيئًا من حنقه، بينما الأب المكلوم بفقد مصدر رزقه يحاول أن يخفف عن زوجته وأبنائه، فيما هو في الحقيقة يضرب أخماسًا في أسداس.
تلفت الثمار في ثلاثة دونمات من أصل ثلاثة ونصف يملكها العطار، جراء القصف المتكرر من طائرات الاحتلال على مدار أيام العدوان الخمسة، والضربة القاضية كانت في الدقائق الأخيرة قبل دخول الهدنة حيز التنفيذ.
أذى نفسي أيضًا
هذه واحدة من حكايات العدوان الممتد بين التاسع والثالث عشر من مايو 2023، بدأه الاحتلال الإسرائيلي باغتيال ثلاثة مطلوبين، وبلغ عدد الشهداء فيه 33 شهيدًا.
قبل العدوان بأيام، باع العطار ثمارًا بقيمة ثلاثة آلاف شيكل، وترك باقي المحصول لينضج أكثر حتى يرتفع سعره، وبذلك يسدد ديونه، ويحقق ربحًا يوفر لأسرته حياة كريمة، لكن القصف كان أسرع مما خطّط إليه.
في هذا التقرير، يتحدث العطار وآخرون لـــ "آفاق البيئة والتنمية" عن خسائر بمئات آلاف الشواكل، فقد سمّد التربة وعقمّها وجدّد الدفيئات قبيل الموسم الزراعي الحالي، وهذه أمور يُفترض أن يمتد مفعولها لعدة سنوات، إضافة إلى أنه زرع شتلات شمام من الصنفين الأعلى سعرًا، وجزء كبير من تكلفة ما سبق لم يدفعه بعد، لأنه كان ينتظر أرباح الحصاد.
يقول: "فتكَ القصف بمحصول الشمام، وما بقي منه لم يعد صالحًا للأكل، وامتد الضرر إلى أشجار الزيتون فأتلف نصف دونم منها".
ويضيف: "لا يمكن أن يحدث كل هذا الدمار بسبب قصف عشوائي، فليست صدفة سقوط صاروخ ارتجاجي في نقطة تؤدي لانهيار الدفيئة، هذا استهداف للاقتصاد الفلسطيني، خسرت كل ما أملك وأصبحت مَدينًا للناس، والمزارع الذي يعمل معي لا أعرف كيف سأدفع له أجره لاحقًا، وهذا ينطبق على غيري من أصحاب الأراضي المستهدفة".
يقضى العطار يومه في أرضه الواقعة في بيت لاهيا، لا ليحرسها من الناس، بل ليحرس الناس منها، فهو لم يتمكن من التخلص من كل الثمار الفاسدة، لكثرتها، وقد جنى جزءًا كبيرًا منها، ما أرهقه جسديًا، وسبَّب له مضاعفات عديدة بسبب أنواع الأسلحة المستخدمة.
يحّدثنا والسعال يقطع حديثه بين جملة وأخرى: "لن أستعين بأبنائي كالعادة حرصًا على سلامتهم، فمجرد دخول المزرعة يصيبني بالاختناق والسعال، ولمس الثمار يسبّب الحكة والاحمرار في يدي".
يقول: "قصفَ الاحتلال الأرض مرات كثيرة، وفي إحداها أُصبت إصابة بالغة لزمت في إثرها العناية المركزة تسعة أيام، وفي كل مرة كنت أرممّها دون الحصول على أي تعويض، لكنني اليوم لا أجد مخرجًا".
ويواصل حديثه بحيرة: "عقلي مشتت، أكلم نفسي منذ أيام، أخطط لإصلاح ما أفسده القصف، ثم أعود للواقع فأتذكر أنني مَدين للتجار بعشرات آلاف الدولارات، وأن العودة للزراعة يحتاج عملًا من الصفر، بدفن التربة المسمومة ووضع تربة جديدة، وهذا حلمٌ تحقيقه شبه مستحيل".
ومن الواضح أن الأذى ليس ماديًا فحسب، ففيه شقٌ نفسيٌّ أيضًا، لأن الرجل نشأ في هذه الأرض منذ كان يعمل فيها والده، وأبناؤه كذلك، أي أن مكان العائلة المفضل وكل ذكرياتها ذهبت مع الريح، بالمختصر هو وأولاده في حالة صدمة، وفق قوله.
لم يفارق الإحباط نبرة صوته حتى آخر حديثه لنا: "أبنائي ما زالوا تحت تأثير الصدمة، أراهم مشتتين، تغيّرت كثير من تصرفاتهم، فمثلًا أحدهم متفوق دراسيًا، لكنه اليوم يرفض الدراسة للاختبارات النهائية".
باحثٌ عن عمل
في بيت لاهيا أيضًا، يبحث "أديب الرضيع" عن عمل جديد يوفر له قوت يوم أسرته، بعدما أدرك أن لا طاقة له بإحياء مشروعه الذي صار أثرًا بعد عين.
أسّس الرضيع مزرعة دواجن قبل 20 سنة، وكانت المزرعة تتأثر في كل قصف قريب منها، حتى أنه لم يعد يحصي كم مرة تضرّرت.
وبعد كل قصف، كان يرمّم المزرعة على نفقته، لكن هذه المرة تدمرت تمامًا، حتى رؤوس الأغنام الست التي تركها أخوه في المزرعة لم يبقَ لها أثر، ولم يتضح إن كانت نفقت في القصف أو هربت من المكان.
يقول إن خسائره بلغت 15 ألف دولار، وهذا مبلغ لا يمكنه تعويضه.
ويضيف: "أنا والعاملون معي فقدنا مصدر رزقنا، ولا أعرف أين سأعمل لاحقًا، ولا في أي مجال".
ماذا لو كانت أرباحا؟
في أيام العدوان الخمسة، تضرّر المشتل الخاص بالمهندس محمد أبو سيف، بعد أن وصلت إليه الشظايا وكتل الطين المتناثرة
من مكان قريب استهدفه الاحتلال بصواريخ من طائرات F16
يقول أبو سيف: "خسرت في هذا العدوان سبعة آلاف شيكل، وهذه ليست المرة الأولى، يتكرر الضرر، وتتكرر الخسارة".
ويضيف: "المبالغ التي دفعتها من أجل الترميم بعد كل قصف كان من شأنها أن تأخذ مشروعي إلى مكان أكثر ازدهارًا لو أنها كانت تدخل في الأرباح بدلًا من الترميم"، مشيرًا إلى أن مثل هذه الخسائر تلحق الضرر بعجلة الاقتصاد، وتهدد رزق صاحب المشروع والعاملين معه.
التعافي أكثر صعوبةً
بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فالتقديرات الأولية للخسائر في القطاع الزراعي تشير إلى ثلاثة ملايين دولار أمريكي، فقد أحدث القصف المباشر مائتي حفرة زراعية تحتاج لردم وإعادة تأهيل لزراعتها مجددًا، وتضرّر 600 دونم من المزروعات، و150 دونمًا من الدفيئات الزراعية المغطاة، وعشرة آلاف متر من خطوط الري.
وفيما يخص الثروة الحيوانية، بلغت الخسائر في مزارع الدواجن والمواشي والأغنام وخلايا النحل 225 ألف دولار، وتوقفت حركة الصيد تمامًا، وتوقف تصدير أكثر من 1100 طن من الخضروات والأسماك.
ويقول المتحدث باسم وزارة الزراعة المهندس أدهم البسيوني إن الأراضي الزراعية تضررت مباشرة بقصفها أو جراء استهداف مكان مجاور، في حين أن الضرر غير المباشر يتمثل في عدم تمكن المزارعين من الوصول إلى أراضيهم وريّ المحاصيل".
ويضيف أن العدوان عند العاملين في قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية يعني الانقطاع عن العمل، ومن ذلك أن المزارع لا يستطيع أن يروي أرضه، وصاحب مزرعة الدواجن لا يمكنه الاعتناء بطيوره، والصياد لا يقدر على دخول البحر.
ويستطرد البسيوني قائلًا: "في كل عدوان تتأثر القوى العاملة، فلا يستطيع العمال الوصول لأماكن عملهم، وبالتالي لا يحققوا دخلاً طوال فترة العدوان، وهذا يضعف القدرة الشرائية، وبالتالي يزداد الوضع الاقتصادي سوءا".
ويؤكد أن كثرة الاعتداءات الإسرائيلية تُنهك القطاع إلى حد كبير، وتجعل التعافي بعد كل جولة تصعيد أكثر صعوبة.
أوجه الضرر في الحرب البيئية
يرى د. عبد الفتاح عبد ربه أستاذ العلوم البيئية في الجامعة الإسلامية في غزة أن الحرب حتى إن كانت في الأصل سياسية وعسكرية، إلا أنها لا تخلو من "الحرب البيئية".
ويقول عبد ربه في حديثه لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية": "قصف البيوت والمنشآت يولّد الردم، ولا نعرف على وجه الدقة طبيعة الأسلحة المستخدمة، فسابقًا ثبت استخدام اليورانيوم المخضّب، وفي هذه الحالة مخلفات القصف تكون بالغة الخطورة، ودفنها أو إعادة استخدامها فيه ضرر كبير، فهي تحتاج لتعامل خاص"، مضيفاً: "هذه المخلفات تشكل عبئًا على مكبات النفايات الصلبة، فتفاقم وضعها سوءًا".
ويمضي في حديثه: "استهداف الأراضي المفتوحة يسبب حفرًا يصل قطر الواحدة منها إلى 20 مترًا، وفي هذا هدر للتربة التي تمثل ثروة لقطاع غزة المعتمد كثيرًا على الزراعة، وترميم التربة المفقودة يحتاج مئات السنوات".
ويبين أن قصف الطرقات يضر بشبكات المياه فتختلط المياه العادمة بمياه الشرب التي هي ملوثة أساسًا، مما يسبب أضرارًا صحية للمواطنين.
ويوضح: "تتلف كثير من أشجار الزينة في عمليات القصف المختلفة، وقطعها يعني تدمير الغطاء النباتي الذي يعتمد عليه غطاء حيواني، مثل العصافير التي تعيش على تلك الأشجار، ما يسبب مشكلة في الحياة البيئية، ويؤثر على التنوع الحيوي".
ويلفت عبد ربه إلى أن القصف إذا طال أماكن تربية الحيوانات، فمن شأنه أن يزيد مشاكل الثروة الحيوانية، وقد ينتج عنه مشكلة في الأمن الغذائي.
كما أن تدمير البنية التحتية مثل الصرف الصحي وشبكات المياه، من شأنه أن يضغط على البلديات، التي تعاني النقص في كثير من المعدات اللازمة لسير عملها، تبعًا لقوله.
وثمة نوعان آخران من التلوث يمسّا المواطنين في وقت العدوان، بحسب عبد ربه، وهما التلوث الصوتي الناتج عن أصوات الطائرات والانفجارات، والتلوث الهوائي بسبب الدخان المتصاعد من الأماكن المستهدفة.
وعن توالي الاعتداءات الإسرائيلية وتأثيرها على البيئة، يقول: "النظام البيئي في غزة هشّ دون شن حروب، والقصف يزيد العبء على البلديات والبنية التحتية وهذا يضر بالبيئة أكثر، فمثلاً أماكن الردم ربما تتحول إلى مأوى للحيوانات الضالة".
ومن وجهة نظره: "لا يمكن القول إن البيئة غير مستهدفة، فهل يكون قصف مستودع أدوية ومبيدات، كما حدث قبل عامين، خطأً؟".
العدوان بالأرقام
حتمًا، طال العدوان كل مناحي الحياة في القطاع، ووفق الأرقام التي أعلنها المكتب الحكومي، بلغت الخسائر في البنية التحتية حوالي مليون دولار، حيث تضررت خطوط مياه وصرف صحي وكهرباء، إضافة إلى إغلاق شوارع بسبب القصف والركام.
وعن المسكن والمأوى، تضررت 2041 وحدة سكنية، منها 93 وحدة دُمرّت كاملة، و128 أخرى لم تعد صالحة للسكن، بخسائر تُقدر بتسعة ملايين دولار.
التقدير الأولي للخسائر الناتجة عن توقف عجلة الاقتصاد في أيام العدوان بلغ نحو 40 مليون دولار.
والقطاع التعليمي شهد خسائر بشرية، باستشهاد ثمانية طلبة، أما المباني فقد تضررت سبع مدارس وتسع رياض أطفال.
وعلى مدار أيام العدوان، قدّمت طواقم الإرشاد النفسي التابعة لوزارة التربية والتعليم 8000 خدمة ودعم نفسي وإرشادي.