"عَبْــدات" النبطيــة في صحراء النقــب درب العطـور والبخــور
خالد أبو علي - مجلة آفاق البيئة والتنمية
وقفنا مشدوهين أمام المدينة النّبَطِيَّــة "عَبْــدات" التي شكلّت في الزمن القديم نقطة تجارة إقليمية وعالمية، وذلك في مسارٍ بيئي استكشافي نظّمناه إلى صحراء النُّقــب، ولا يملك المرء في مكانٍ كهذا إلا أن يندهش من عظمة مبانيها المعمارية وجمال مُغرها وعراقة نقوشها وقِدم أوانيها الفخارية.
كان كل حجر ينطق بتاريخها المجيد، وبالرغم من مرور أكثر من ألفي عام على هذه المدينة القابعة في صحـراء النّقــب جنوب فلسطين، وبالرغم من الحروب والهزات الأرضية ما زالت معالمها وآثارها التي تجولّنا فيها ضاربة في القِدم وتشهد على حضارة عريقة ما زالت ماثلة للعيان.
(المَشَّاء عبد الفتاح حجه).
النُّقــبْ الفلسطيني
تُشكّل صَحْــراءُ النُّقــبْ قرابة نصف مساحة فلسطين التاريخية (قرابة 12,000 كم2) فهي بموقعها الإستراتيجي ومقوماتها الطبيعية وغنى مواردها المعدنية كانت هدفًا دومًا للاستيطان البشري ومنطقةً للتوسع الزراعي والسكاني، وحسب قاموس معاجم اللغة النُّقــبْ هو الطريق الضيق في الجبل، والمناقب- مفردها مَنقبة- هي الطريق الضيق بين دارين، وتدل هذه التسمية على أهمية موقع النُّقــبْ من الناحية الجغرافية، وعلى أنه كان ممرًا وطريقًا إلى البلدان المحيطة به.
قرى النُّقــبْ
في سبعينيات القرن الماضي، أقامت سلطات الاحتلال سبع بلدات في النُّقــبْ، ونَقلت إليها قرابة نصف السكان البدو وبعد صراعٍ مستمر مع السكان، اعترفت قبل سنوات بـ 11 قرية بدوية من أصل 46، لتبقى 35 قرية غير معترف بها، وتَعمل سلطات الاحتلال على هدمها وتجميع سكانها في البلدات أو التجمعات الحضرية التي أقامتها لهذا الغرض، بناءً على قرار اتخذته محاكم الاحتلال عام 1948 بأنه "لا ملكية للبدو في أرضهم".
وتضم صَحْــراءُ النُّقــبْ عربًا من البدو رفضوا مغادرة الصَحْــراء بعد حرب 1948، ما أدى إلى التضييق عليهم إلى أبعد حد، فقد هدمت سلطات الاحتلال قراهم مئات المرات، ولا تعترف بالقرى الواقعة في الصحْــراء، بالرغم من وجود 300 ألف إنسان فلسطيني فيها، وهي محرومة من المرافق الأساسية والبنى التحتية، فضلًا عن تخريب البيوت التي يبنيها السكان بأيديهم، بحُجة مخالفات تتصل بالبناء العشوائي.
التنوع الحيوي في صَحْــراء النُّقــبْ
يغطي إقليم النباتات الصحراوية أراضٍ واسعة من صَحْــراء النُّقــب، ويمتد من برية القدس والخليل شمالاً إلى النُّقــبْ الجنوبي جنوباً.
وتنتشر نباتات هذا الإقليم، وهي شوكية وأعشاب قصيرة، في تجمعات مبعثرة في المنخفضات وبطون الأودية، ومن الطبيعي أن يكون الغطاء النباتي في الظروف المناخية والمائية الصعبة هزيلًا، مقتصراً على الأعشاب قصيرة العمر وبعض أنواع الشجيرات القزمة المقاومة للجفاف التي تنمو في أنواع التربة الفقيرة الرقيقة وبين شقوق الصخور، وأهم تلك النباتات هي الملاح، والطلح، والقضاب، والينبوت، والعرعر، والخزامي، وشوك الجمل.
وفي تجوالنا في مدينة "عَبْــدات" النّبَطِيَّــة وقرب عين "عَبْــدات" شاهدنا البدن أو الوعل النوبي Nubian Ibex بأعداد كبيرة.
سألنا عن التنوع البيولوجي في صَحْــراءُ النُّقــبْ، د. وليد الباشا مدير مركز الباشا العلمي للدراسات لحماية التنوع البيولوجي، فقال: "على الرغم من أن المنطقة تبدو شبه قاحلة إلا أنها تضم تنوعًا حيويًا كبيرًا، فهي موئل للطيور والثدييات والزواحف التي ينشط بعضها ليلاً، ومن الطيور المشاهدة هناك أبلق أسود الذيل، وأبلق حزين شرقي، والسّوَّادية هو طائر مقيم في حفرة الانهدام خاصة في محيط البحر الميت والأودية ذات الجروف الحادة، كما يوجد في صَحْــراءُ النُّقــبْ عدد من الأودية التي تضم عيون الماء والينابيع، ومنها عين "عَبْــدات" المليئة بالأشجار البرية والغنية بمياهها العذبة" .
ويؤكد د. الباشا خبير الحياة البرية أن "صَحْــراء النُّقــبْ تضم تنوعًا حيويًا كبيرًا، ويشرح بقوله: "بحيرة رحمة" الطبيعية المحاطة بالأشجار الصنوبرية في جنوب بئر السبع جذبت لها العديد من الكائنات الحية وأغنت التنوع الحيوي فيها، فيمكن مشاهدة البط الخضيري، والغطاس الصغير، وطائر الرفراف الشائع، أو السمّاك الأخضر الشائع وهو من الطيور التي تعيش بالقرب من البحيرات والينابيع، ويتغذّى على الأسماك الصغيرة بعد الغوص لاستخراجها ويبني أعشاشه على ضفاف الجداول والبحيرات".
وفي "بحيرة رحمة" يمكن مشاهدة "البلشون الرمادي" في النُّقــبْ الذي يتميز برقبته ومنقاره الأصفر الضخم، وريشه الرمادي، ويستوطن هذا الطائر بالقرب من المياه الضحلة خاصة عند المستنقعات وضفاف الأنهار والبرك والبحيرات، ويتغذى الطائر الرمادي على الأسماك والثدييات الصغيرة مثل الفئران والضفادع والديدان.
المدن النّبَطِيَّــة في المشرق العربي
امتدت مملكة الأنباط وشملت العديد من المواقع على امتدادٍ واسع في المشرق العربي القديم، ما يدلّ على نفوذ هذه الحضارة وقوتها.
وأهم مواقع الأنباط في الأردن البتراء، ووادي موسى، ووادي رم، والعقبة، وأم الرصاص، والقصر، ورأس النُّقــبْ، ومادبا، وأم العلدا وغيرها من المواقع.
أما شمال الحجاز في السعودية فهناك مدائن صالح، والعلا، والخبير، وفي حوران وسوريا بصرى، ودمشق، والبقاع، والسويداء.
وتذكر المصادر أسماء الكثير من المواقع النّبَطِيَّــة في النُّقــبْ جنوب فلسطين، ومن هذه المواقع "أم الرشاش" على البحر الأحمر، وعبده، والخالصة النّبَطِيَّــة، وعوجا، والحفير، وسبيطة، وكُرْنُب، والأخيرة قرية فلسطينية مهجرّة تقع على بعد 40 كم من الجنوب الشرقي لمدينة بئر السبع، وذكرتها المصادر التّاريخيّة باسم (ممبسيس)، وقد ظهرت بهذا الاسم في فسيفساء مادبا.
المسار البيئي ومكونات المدينة النّبَطِيَّــة
في مسارنا الذي امتدَّ بمسافة ثمانية كيلومترات من مدينة "عَبْــدات" نحو عين "عَبْــدات" شاهدنا مغارات كثيرة منتشرة في الوادي يبدو أن الرهبان المسيحيين اتخذّوها لأداء مناسك لهم في الفترة البيزنطية.
شاهدنا الدرجات الصخرية المؤدية إلى هذه المناسك التي نحتها الرهبان لفترات طويلة "عَبْــدات" التي تُعد واحدة من أفضل المدن النّبَطِيَّــة المحفوظة في صحْراء النُّقــبْ جنوب فلسطين، والتي تمثل مجمعًا أثريًا ونظامًا متطورًا للزراعة والآبار القديمة.
كما شاهدنا عند تجوالنا في "عَبْــدات" مكونات هذه المدينة النّبَطِيَّــة التي كان لها ماضٍ عريق، ومنها مبنى الحمَّام الذي تأتيه المياه من بئر عميقة مجاورة وهو محفوظ جيدًا من العصر البيزنطي.
وكذلك كهف الدفن الروماني وهو غرفة دفن رائعة، كما يوجد عند المدخل هيكل به نقوش من الشمس والقمر ومذبح على الواجهة، وفي الكهف نفسه أكثر من 20 محرابًا للدفن.
شاهدنا أيضًا منظرًا شاملًا لأطلال ومرتفعات "عَبْــدات" من أعلى أحد أبراج المراقبة، ودخلنا الحصن الذي بُني وسط المدينة واُستخدم على ما يبدو للتجمعات وملاذًا للسكان في أوقات الخطر.
كما وصلنا الى نقطة مراقبة المعبد النبطي التي تطلّ على المدينة العليا وبقايا المعبد النبطي، ومن نقطة المراقبة، يمكن رؤية الأراضي الزراعية القديمة، وامتدادات مرتفعات "عَبْــدات".
وجدنا في "عَبْــدات" بقايا كنيسة جنوبية وكنيسة أخرى شمالية بُنيت على أنقاض المعبد النبطي، كما عُثر على حوض معمودية صليبي الشكل.
ولفتت انتباهنا القنوات المائية وطرق الري التي تميزت بها المدينة، وقد مُدّت من أعالي تلة عين "عبدات " إلى السهول المحيطة بها.
مدينة "عَبْــدات"
تقع " عَبْــدات" على واحدة من أكبر الهضاب في صَحْــراء النُّقــبْ جنوب فلسطين أُطلق عليها اسم مرتفعات "عَبْــدات"، وكانت محطةً على طريق البخور النّبَطِي، ومسارًا تجاريًا قديمًا من مصر إلى الهند مروراً بشبه الجزيرة العربية.
وقد أسسّ الأنباط مدينة "عَبْــدات" في القرن الثالث قبل الميلاد وسط صَحْــراءُ النُّقــبْ وكانت ثاني أهم مدينة نّبَطِيَّــة بعد البتراء.
يقول المرشد البيئي عوني العمري: "عَبْــدات" إحدى المدن النّبَطِيَّــة الحصينة الرائعة في النُّقــبْ على درب العطور والبخور التي تصل بين البتراء والموانئ الفلسطينية غزة ويافا، وكانت تمتاز فضلًا عن كونها محطة استراحة ونقطة حماية امتازت بالزراعة الصحراوية المَروية بطريقة المدرجات خاصةً زراعة الكرمة وأشجار الزيتون، وكانت تخزّن مياه الأودية والينابيع في برك أو آبار عالية الموقع ليُجرّ الماء إلى البساتين بالقنوات بقوة الجاذبية".
وعن سبب التسمية يواصل العمري حديثه مع آفاق البيئة والتنمية: "سُمّيت المدينة التاريخية "عَبْــدات" بهذا الاسم نسبة الى الملك النّبَطِي عبده، ويُعتقد بأن الملك النّبَطِي عبده الأول الذي حكم المنطقة (96-85 قبل الميلاد) مدفون في تلك المنطقة ويُنسب إليهم الخط النّبَطِي".
طريق العطور والبخور
سكنت "عَبْــدات" شعوبٌ وحضارات كثيرة سبقت الأنباط والرومان، لكنها لم تترك أثرًا كبيرًا في الموقع.
أما الأنباط فقد اتخذوها نقطةً تجارة عالمية، وأصبحت "عَبْــدات" محطة مهمة على طريق البخور في الفترة الهيلينستية (اليونانية) ثم في العصر الروماني وكذلك في الفترة البيزنطية.
كما طوروا الزراعة ومن أهمها، زراعة العنب لصنع النبيذ وهذا ما يفسر وجود جرار الفخار المختلفة التي شاهدناها بأشكال مختلفة داخل المدينة.
يقول خبير الآثار عبد الرحيم حمران: "في فلسطين العديد من الآثار التي تعود إلى فترة الأنباط، وكانت تغطي مساحة تزيد على ثلث البلاد في المنطقة الجنوبية الصحراوية، ولم تكن مثل هذه المواقع تلقى الاهتمام ولم يُعمل على ترميمها وتأهيلها قبل سبعينيات القرن الماضي".
ويضيف حمران: "جميع المواقع التي تعود للفترة النّبَطِيَّــة ارتبطت بطريق البخور للتجارة العالمية، وكانت تنتهي الرحلة في ميناء غزة وتستمر إما إلى مصر أو للبحر المتوسط باتجاه أوروبا، ولم يكن الاهتمام بصحــراء الجنوب فقط للتجارة، فهي تضمّ أقدم أشكال التعدين للنحاس والحديد في العالم القديم، وكانت هدفًا للحملات الفرعونية وللقبائل الكنعانية، كما تضم المنطقة واحات زراعية، ومناخها مناسب لإنتاج الخضار والفواكه اللازمة للتجار والسكان".
المحمية الطبيعية "عين عبدات"
على بعد كيلومتر واحد إلى الغرب من مدينة "عَبْــدات" شاهدنا مجرى وادٍ موسمي عظيم وهو أحد أكبر الجداول في جنوب فلسطين، رأينا الصهاريج التي نُحتت في الصخر وهي سلسلة من صهاريج التخزين النّبَطِيَّــة لالتقاط مياه الفيضانات واستخدامها لري المحاصيل الزراعية.
وعلى مسافة قريبة من مدينة "عَبْــدات"، يوجد عدد من الينابيع في المدخل الجنوبي للأخدود تصبّ في برك عميقة في سلسلة من الشلالات، وتنبع المياه من طبقاتٍ صخرية وتكوّن مياه العين في جريانها جدول ماء أشهرها عين "عَبْــدات" والتي تتكون من شلالٍ يصل ارتفاعه إلى 15 م، ويصبّ في بِركة ماء يصل عمقها إلى حوالي ثمانية أمتار تحيطها النباتات والأشجار البرية.
عين "عَبْــدات" هو أخدود في صَحْــراء النُّقــبْ، تشير الدلائل الأثرية إلى أن عين "عَبْــدات" كانت مأهولة بالأنباط، ويؤكد لنا خبير الآثار حمران أن "جميع المدن النّبَطِيَّــة في النُّقــبْ أقيمت على واحات زراعية، وقد برع الأنباط في إدارة الموارد المائية سواء الجوفية أم عمل البرك والمصائد المائية لتجميع مياه الأمطار، وبخاصة أن هطول الأمطار في الجنوب لا يصل إلى ٢٠٠ملم".
سِحْــرُ الطَّبيعَــةُ في وادي جُــرْن الرُمَّــان
من المواقع المثيرة في صَحْــراءُ النُّقــبْ والفريدة في العالم "جُــرْن الرُمَّــان" أو "وادي الرُمَّــان" وهو وادٍ صحراوي شديد الانحدار أو أخدود منغلق يقع في صَحْــراءُ النُّقــبْ جنوب فلسطين التاريخية، ناتج عن ظاهرة جيولوجية، ويعد أكبر "طوق تآكل" في العالم.
وصلنا إلى الوادي بعد سفرٍ امتد لـــــ 85 كم جنوب مدينة بئر السبع، فإذ بحفرة ضخمة يصل عرضها إلى نحو 14 كيلومترًا وطولها يبلغ نحو 40 كم، وعلى عمق 500 متر، كانت قد تشكلّت على مدار ملايين السنين في عمليّة مذهلة، ويُعتقد بأن البحر قد غمر هذه المنطقة منذ ملايين السنين، وتكوّنت فيه طبقات من الصخور الكلسيّة الصلبة.
شاهدنا جُــرْن الرُمَّــان بواسطة مطلٍّ يشرف على الوادي وكانت الطَّبيعـة قاسية جدًا، حتى أن أحد المشاركين شَبَّهَ طبيعتها الجيولوجية بالمريخ من حيث الجفاف وقساوة الطَّبيعَــةُ والبيئة الموحشة.
رحلة مع " شيخ الجغرافيين" الفلسطينيين
يقول الباحث والكاتب الفلسطيني بسام الكعبي: "كانت "عَبْــدات" الفلسطينية قبل الميلاد جزءًا من خط التجارة القديم الممتد من الصين والهند في الشرق عبر سواحل الخليج العربي إلى اليونان وجنوب تركيا في الغرب مرورًا بميناء غزة (آخر مدينة للأنباط على البحر المتوسط)، وكان خط التجارة القديم ينقل البخور وريش النعام والسيوف من الهند وحضرموت، والزجاج من غزة، والنبيذ وزيت الزيتون والمنسوجات من بيت لحم ونابلس والخليل قبل أن يتحوّل خط التجارة إلى سواحل مصر".
ويضيف الكعبي: "كنتُ قد زرتُ آثار المدينة النّبَطِيَّــة العريقة بأواسط الثمانينيات برفقة العلامة "شيخ الجغرافيين" الفلسطينيين الدكتور كمال عبد الفتاح أستاذ الجغرافيا المرموق في جامعة بيرزيت؛ والذي حرص على تنظيم أربع رحلات سنويًا لطلاب الجامعة في كل أرجاء فلسطين".
ونختتم جولتنا بما قاله الكاتب إياد شماسنة في مقالته (طريق البخور عبر النُّقــبْ الفلسطيني شاهد على الأنباط): "لقد مثَّل الأنباط حلقة مميزة في التاريخ العربي، وشكلّوا حلقة وصل مثالية بين الآراميين والعرب، وكانت تجارتهم سببًا في تشكيلٍ حضاريٍ جديد جلبَ الثراء والمجد لدولتهم التي امتدت لتشمل مملكة واسعة شكَّل النُّقــبْ الفلسطيني حيزًا واسعًا منها، وتبرز مدنهم الأربعة التي سجلّت في قائمة التراث العالمي شاهدًا حضاريًا على عروبة فلسطين منذ الأزمنة، وبما يؤكد أن فلسطين كانت دائمًا حيزًا مهمًا من الممالك العربية التي نشأت قبل الإسلام وبعده، ولم تنفصل يومًا عن هذا الوجود العربي، حتى في الحقب الهيلينية أو الرومانية".