الجامع "المُعَلّق": تراث من الحقبتين المملوكيّة والعثمانيّة
الجامع "المُعلّق" من المعالم المميّزة، والشهيرة في طرابلس، إن لجهة عمارته، أم للطريقة التي شيِّد بها مرتفعاً عن الطريق العام، ويقع عند المدخل الجنوبي للمدينة القديمة.
إلا أن الجامع المرتفع عن الطريق، مرتكز على ممر مقنطر، يؤشّر إلى الحقبة العثمانية التي تقع منشآتها عند أطراف المدينة القديمة المملوكيّة.
يقوم الجامع وسط عدّة منشآت أخرى منها الحمام الجديد، وقصر، وحديقة، ومدرسة، ومدفن لمحمود بك الزعيم، باني المسجد، ومنشآت أخرى.
يعود بناء المسجد إلى سنة 1559، أي متاخماً زمنيّاً للحقبة المملوكية، لذلك بقيت مؤثّرات تلك الحقبة العمرانية متجسِّدة فيه.
ويوضح المهندس الدكتور خالد تدمري-رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس- إن "المؤرّخين يفرِّقون بين العمارة في الحقبة العثمانية المتقدّمة التي تعود إلى أوائل 200 سنة المنصرمة، والعمارة في الحقبة العثمانية المتأخّرة، التي تقع في أوّل مائة عام من الحكم العثماني"؛ مع العلم أن الحقبة العثمانيّة امتدّت أكثر من أربعماية عام.
ويفيد تدمري أن "هناك اختلافاً بالأشكال، والخصائص المعماريّة في كل من الحقبتين، وبما أن طرابلس كانت مملوكيّة العمارة في الأساس، فمن البديهي أن المساجد العثمانية الأولى احتفظت بنفس الخصائص المعمارية التي كانت موجودة في الجوامع المملوكيّة، فثمة طراز كان سائداً، ومعلّمو البناء انتموا إلى نفس المدرسة".
ويروي تدمري أن "الجامع المعلّق بناه أحد الولاة العثمانيين محمود لطفي الزعيم، وكان والي طرابلس، وهو عبارة عن مُجَمّع على غرار ما نسمّيه في العمارة العثمانية ب"الكلية"، ويسمّى "مُجَمّعاً" لأنه يضمّ عدّة منشآت مثل المسجد، والمدرسة، والحديقة والقبر".
يمكن الدخول إلى الجامع من الشارع العام، عبر باب حديدي تعلوه لوحة تحمل كتابات دينية تؤشّر إلى تأسيس الجامع سنة 969 هجرية؛ فسُلَّمٌ مغطىً ببلاطٍ حجريّ، ومنه إلى بابٍ تعلوه لوحة بخطٍّ ثَلِثٍ متداخل فيها تأكيد على تاريخ تأسيسه.
يدخل قاصد الجامع إلى فسحة الصلاة الوسيعة المغطّاة بعقود من حجر مرتكزة على أعمدة، إثنان منها غرانيت محفوران باستدارة، والبقية من الحجر المبني بشكل مُضَلّع، تعلوها تيجان بسيطة النقوش.
وبنظر تدمري، فإنّ عمارة الجامع الداخليّة "تقوم على العقود الحجريّة، وليس على القباب، مرتكزة على أعمدة، وتعطي انطباع العمارة المملوكيّة في تلك الفترة".
يُعْرَف الجامع ب"المعلّق" لأنه يقع فوق الطريق من دون تماس مع الأرض، لأن خط الأسواق الرئيسيّ الممتد من باب الرمل حتى التبانة، فرض أن يُبنى الجامع فوق الطريق ليتيح للمارة العبور.
مئذنة الجامع مميّزة، ولها خصائص معماريّة تجعل منها تحديّاً عمرانيّاً، فهي، من جهة، مُثَمّنة الأضلاع، حجارتها متفاوتة بين الأبيض الطاغي على معظم مساحتها، والأسود القليل، مع حفريات بأشكال جميلة، ونقوش؛ ومن جهة ثانية، ترتكز المئذنة على جزء من الجامع، وليست لها أساسات تثبتها على الأرض، فهي قائمة على قوس من الحجارة البلقاء (المتناوبة بين الأبيض والأسود)، الذي يعلو المدخل، وتحته فارغ، وهذا ما يرى فيه الأخصائيون المعماريّون تَحَديّاً عمرانيّاً.
لحقت بعض الشقوق بالمئذنة، لكنّها لا تقلق المهتمّين بالمسجد لأن تخطيطها يعود إلى مهندس معماريّ عثمانيّ ماهر إسمه سِنَان، وضع أُسس هذه العمارة للمآذن، وركّزها على ما يشبه عتبة الشباك، وتُعرَف بالمفتاح، ومثلها موجود في السليمانية، وسور القدس، وخسرويّة حلب، وسليميّة "أدرنة" في تركيا.
ويرى تدمري أن "هناك تأثراً بالحقبة المملوكيّة، فبالإضافة إلى استخدام الحجارة الملوّنة بالأسود والأبيض، هناك ثلاث كتابات تاريخيّة في الجامع، الأولى عند المدخل الرئيسي من السوق، والثانية، تعلو البوابة التي تشكّل مدخل الجامع، وهناك الثالثة فوق الشباك المطلّ على الطريق التي تمرّ تحت الجامع".
ومثل غالبية الجوامع، هناك المحراب الذي يصعد الخطيب إليه عبر سلّم مبني من رخام منقوش، ومُحَفَّر بطريقة تُظهِر ثراءً مميّزاً. ويوجد في الجامع "المُعلّق" مصحف عثماني من الحجم الكبير جداً.
تحيط بفسحة الصلاة جدران فيها الكثير من الشبابيك المرتفعة، والطويلة التي تستهلك مساحة الجدران، تتيح إضاءته، وتهوئته بطريقة جيّدة، وثمّة درج داخلي قبالة المحراب يفضي إلى مُتَخّت تحف به غرف لخدمة الجامع، ومنه باب للصعود إلى المئذنة. جدران الجامع الداخليّة مكشوفة الحجر بعد أن كانت مغطّاة بالطين التقليدي.
وبالإضافة إلى باحة الجامع الداخلية ،هناك مُصلّى صيفيّ يتبع للجامع، يقوم على سُطيحة ممتدة من باحته، وفيه ميضأة، وساحة محراب مكشوفة، وظهر في جنباتها السفليّة صفّ من الطاقات المصقولة بأشكال متطابقة؛ والفسحة استُخدِمت للتجمُّع، والسهر الصيفي قبل الصلاة وبعدها.
اللافت في المجمع قصر محمود بك الزعيم، المحاذي للحديقة، تحمل بقاياه مؤشّرات عزّ وفخامة، لكنه بات شبه مُدَمّر بتعاقب الزمن وتأثير الأحداث، ويبدو فاقداً للكثير من حجارته، المزخرفة والمقرنصة.