"قبّة الهواء".. معلم أثري يحتضر في المرسى
هور في تونس، هو "قبّة الهواء"، في مدينة المرسى (20 كيلومتراً شمال تونس العاصمة). يُعدّ هذا المَعلم جزءاً من الذاكرة الوجدانية لسكّان مدينة تونس؛ فالمرسى هي مدينة الاصطياف الأقرب من العاصمة، ويمثّل المبنى أبرز معالمها، بموقعه الفريد المتوغّل في البحر ومعماره الذي يعبّر عن أناقةٍ وروحِ ابتكار.
كثيرون كانوا ينتظرون تصنيف المبنى ضمن قائمة المعالم التراثية، لكنْ ها هو يُصَنَّف كبناية آيلة للسقوط، وهو ما يشير إلى حالة من الإهمال العمراني لا تعيشها المرسى وحدها، بل معظم المدن التونسية.
بُنيَ "قبّة الهواء" عام 1920 بطلب من البايات الحسينيّين (ملوك تونس تحت الوصاية الاستعمارية الفرنسية)، حيث مثّلت لهم فضاء اصطياف، ولكنّها كانت - أكثر من ذلك - تُمثّل لحظة تعبير عن أبّهة بدأوا يفقدونها في قصورهم بتونس العاصمة، حيث إن البنايات ذات الطابع الكولونيالي بدأت تفرض سطوتها على حساب قصور البايات والأمراء، في باردو ومنوبة وغيرهما من ضواحي تونس العاصمة.
كانت مدينة المرسى، وقتها، أشبه بفضاء حضريّ يتبرعم في لحظة لقاء غير متوتّرة بين الشرق والغرب، مدينة كبرت حول نواة قريتها الأولى بكثير من الانضباط والجمال على عكس مدن أُخرى كانت تشهد "انفجارات سكانية" بسبب حركة النزوح إليها.
يمكن القول إنّ المرسى كانت نقطة وصول لحركة تنقّل ذات صبغة طبقية، فحين دخل سكّان الأرياف إلى مدينة تونس، أخذت أسرها الغنية في مغادرتها إلى بلدات في شمال المدينة، مثل قرطاج وسيدي بوسعيد والمرسى، سرعان ما تحوّلت إلى مدن مستقلّة. وضمن هذا المسار نفسه تقريباً، تحرّك الحسينيّون لإنقاذ بعض ممّا لديهم من المكانة الاجتماعية.
كان "قبّة الهواء" التعبير الأبرز لهذا التوق؛ فهو قصرٌ ذو بنية ترفيهية يعبّر عن حالة فرار بدخوله لأكثر من عشرة أمتار في البحر، وسنتخيّل ما كلّفته هذه "الرغبة الملكية" من أموال على خزينة الدولة وهي تعيش في لحظات ضعف، لكن يبدو أن الإدارة الاستعمارية كانت تشجّع مثل هذه الرغبات، ولعلّها دعمتها لوجستياً ومادياً.
بعد الاستقلال، عادت قصور الأسرة الحسينية إلى الدولة، وتوزّعت بين عدّة استعمالات بعضها رسمي (القصر الرئاسي في قرطاج، والبرلمان في باردو..)، وبعضها ثقافي (مؤسّسة بيت الحكمة في قرطاج).
لكنّ "قبّة الهواء" أخذ اتّجاهاً آخر أقرب للناس؛ فقد جعلت منها الإدارةُ البلديةُ فضاءً ترفيهياً للعائلات، وهنا اكتسبت لعقود مكانةً خاصّة لدى التونسيّين كفضاء تاريخي قريب منهم.
منذ التسعينيات، بدأ الترهّل يظهر على المبنى التراثي، وهي نفس الفترة التي ظهرت فيها المقاهي الباذخة، ليبدأ تحوُّل القصر إلى صورة جديدة غريبة عن الأُسر التونسية، فقد بات يُؤجَّر إلى هذا النوع من المقاهي، وكانت الذريعة وقتها أنّ الأموال الطائلة لكِرائه ستُخصّص للعناية بالمبنى، ولكن اليافطة التي ظهرت أخيراً كشفت أنّه جرى استغلال "قبة الهواء" تجارياً من دون أيّة عناية، وهي اليوم مهدّدة بالسقوط والانهيار في البحر، في تعبير صارخ عمّا يؤول إليه الكثير من المعالم التراثية في تونس منذ سنوات.