أمين ابو وردة.. حكاية صحفي صنع من السجن نقطة انطلاق له
تقرير: نجاح ملحم
في حياة الأسير الفلسطيني مشاعر ومواقف نادراً ما يفصح عنها، وتبقى أسيرة فؤاده أو مذكراته الخاصة، أو الرسائل المتبادلة مع عائلته الصغيرة، ولا يطلع عليه احد من خارجها.
هذه المشاعر المكبوتة تارة والسرية تارة أخرى، تكشف عن عالم آخر يعيشه الأسير، يكاد لا يشعر به اي من مرافقينه في الأسر من اقرب المقاربين له، هكذا بدأ الدكتور امين ابو وردة حديثه مقتبساً فيه واحدة من فقرات احدى كتبه، ليعقب عليه قائلاً: "عشت طوال حياتي اصارع الحياة باجتهاد، لن اقول إن الأسر هو نقطة الانطلاق ولكنه النقطة الفارقة في حياتي العملية والعلمية، عشت كافة المشاعر التي قد يعيشها انسان وصارعت بكل قوتي لأكون ذلك الشخص الذي اطمح ان اكونه ولم اتوقف يوماً حتى وانا خلف قضبان السجن".
البداية
"53 عاماً هو عمري الذي لم يكن يوماً مجرد رقم عابر، 53 عاماً من التضحيات والمحاولات والنجاحات والانهزامات، عشت هذه السنوات وانا اتعلم كل يوم شيئاً جديد اضيفه على هويتي العملية التي صنعتها وصنعتني"، وفق أبو وردة.
الصحفي امين ابو وردة، اب لستة ابناء، ولديه تاريخ حافل بالذكريات، يضيف: "درست في البداية تخصص المحاسبة ولكن ونظرا لأن ميولي العملية مختلفة وانني لطالما احببت العمل في الصحافة؛ فلم اعمل في شهادة تخصصي بل انتقلت للعمل كصحفي ومن هناك بدأت رحلتي في عالم الصحافة وبعد عشر سنوات في العمل في مجال الصحافة قررت الالتحاق مرة اخرى في جامعة القدس المفتوحة لدراسة بكالوريوس الخدمة الاجتماعية، ومن ثم قررت استكمال دراستي للحصول على شهادة الماجستير في التخطيط والتنمية السياسية في جامعة النجاح".
لم يتوقف أمين أبو وردة عند تلك الشهادة بل طمح للمزيد، واراد بشدة استكمال دراسته للحصول على شهادة الدكتوراه، وانطلق برحلته نحو الخارج للحصول على شهادة الدكتوراه وكانت رسالته تحمل عنوان: "استخدامات اللاجئين الفلسطينيين لشبكات التواصل الاجتماعي".
وتابع: "درست سنة كاملة ومكثت في الغربة طامحاً في الحصول على شهادة الدكتوراه وقررت العودة للبلاد لأطفئ شوقي لعائلتي الذين لم اراهم لعام كامل ولكن لم اكن اعلم ان عودتي ستكون بلا رجوع وان الاحتلال سيقف امام احلامي كجدار صارم لا يهد ولا يهز ولا يمكن تجاوزه او التغافل عنه.
قام جنود الاحتلال الاسرائيلي باعتقال أبو وردة وهو في طريق عودته، ومنعوه بعدها من السفر ومغادرة البلاد مدة 10 سنوات، لذلك لم يستطع اكمال دراسته في الخارج واجبر على دراسة الدكتوراه عن بعد في جامعة الهاي الهولندية، حيث كانت رسالته تحمل عنوان: "استخدام النخب السياسية لشبكات التواصل الاجتماعي" وحصل عليها في عام 2014".
مرحلة الأسر
يقول: "اعتقال حملني نحو تغير وبداية جديدة صنعت فيها من محنتي منحة، تم اعتقالي مرتين ادارياً وفي كل مرة كنت ادخل السجن فيها كنت أعلم أنني امام خطوة جديدة من حياتي، بدأ الأمر في الاعتقال الأول دخلت كأي اسير يعلم جيدا انه سيفارق عائلته لفترة من الزمن لم أعلم مقدارها، وقفت أمام الواقع المرير الذي وقعت به محتاراً، وصارعت في مخيلتي كل الأفكار التي قد تخطر على عقل الإنسان، متى سأخرج وكيف سأخرج وماذا سأفعل هنا بين أربع جدران".
كانت تلك الجدران هي الإلهام الأول لأمين أبو وردة؛ ليخط سطوره ويصنع من وجوده خلف قضبان السجن حكاية جديدة تؤرخ بكتب عدة، حاول امين بكل جهده ان يترك بصمته وان يصنع من ظلام السجن نوراً يلهيه خلف القضبان ويرشده لطريق النجاح.
يضيف: "عادة عند دخولنا للسجن نبدأ بالاستماع لقصص بعضنا، حكايا مختلفة من مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وغالبا ما كنت أقف مهزوما امام تلك القصص ودائما كنت أفتخر بعظمة هؤلاء الرجال الذين تحملوا كل هذا، كيف استطاعوا حقاً؟ لم يكن هذا السؤال سهلا قط، لطالما كان السؤال الأصعب في مخيلة كل اسير كيف استطعنا التحمل وكيف استطاعوا هم كذلك الأمر".
واكمل امين ابو وردة حكايته: "في يوم من الايام قررت ان أصنع من معجزات هؤلاء الرجال وقوة صبرهم قصص أرسلها للخارج لعل الناس يعرفونها ويعلمون حينها كم الهول من المعاناة التي يعيشها الاسير، لا اقصد المعاناة الجسدية فهي امر محتمل وتحصيل حاصل طالما انت تحت يدي احتلال غاصب ولن يتوانى لحظة عن سرقة حياتك بدم بارد، بل اقصد تلك المعاناة النفسية وهول مشاعر الاشتياق وتنفس الحرية ورؤية سماء الوطن، ففي داخل كل اسير منا آلاف الأسئلة، متى سأخرج؟ وكيف حال عائلتي الآن وماذا يفعلون؟ من منهم حي ومن منهم قد غادر إلى السماء؟ هل كبر أولادي ودخلوا المدارس والجامعات؟ ومن منهم قد تزوج ومن لا؟ الف سؤال في اللحظة الواحدة والإجابة مجهولة نظرا لانقطاع الزيارات في أغلب الأوقات ووصول الرسائل بعد مدة من إرسالها".
وأردف: "الأسير هو إنسان كغيره من البشر لديه مشاعر ومتطلبات واحلام تحتاج إلى تلبيتها بل بدرجة أعلى بسبب ظرفية حالته ووجوده في الأسر كما يفسر طبيعة تلك المشاعر، أعداد لا بأس بها من الأسرى كانوا يلجؤون يومياً لكتابة رسائلهم، لمن يرغبون لتكون ذكريات جميلة لهم عند خروجهم، وتعبر عن مدى حبهم للعديد من الأشخاص الذين تحملوا أعباء الاعتقال، رغم كونهم خارج أسوار السجن".
ان مشاعر الاسير العاطفية تعد في غاية الأهمية ليس فقط من الناحية الإنسانية والاجتماعية بل من ناحية سياسية ووطنية، وتجسد مرحلة من مراحل حياة الأسير وتظهر انسانيته وتغلبه على كل مشاق القيد والأسر، لذلك قام أمين بجمع هذه القصص التي سمعها من الأسرى المرافقين له ليصنع منها كتباً يقرأها من هم في خارج السجن.
يقول أبو وردة: "كنت استمع لهذه القصص واطلب دائما أن يتم نقلي من سجن لآخر، ليس حباً في التنقل فعملية الانتقال ليست بالسهلة فنحن نجلس لساعات طويلة في سيارة على مقاعد حديد مكبلين الايدي، ولكن كنت احتمل تلك الرحلة لأصل لمكان جديد اكتب منهم قصصا جديداً، وأرسلت هذه القصص على شكل رسائل او رسومات او كبسولات نخرجها من السجن من عائلاتنا عند الزيارة، واوصيت بأن يتم الاحتفاظ بها إلى ان اخرج من السجن لأحولها لكتب يتم طباعتها ونشرها بين الناس، كنت اجلس بالساعات وانا اكتب عن تجربتي داخل السجن وعن القصص التي كنت اسمعها وانتظر تلك اللحظة التي سأجمع بها الورق في كتاب يحمل اسمي ويحمل معاناة الأسرى".
بهذه الطريقة كان يقضي أمين أبو وردة ساعات اعتقاله، ولم يكتفي بذلك، بل كان يعلّم الأسرى الآخرين أصول الكتابة والعمل الصحفي لينشر العلم والفائدة قبل مغادرته السجن.
ما بعد الأسر
"غادرت السجن وبدأت اجمع الرسائل التي أرسلتها للخارج وكنت في كل اعتقال اخرج كتابين من قصص الأسرى، ونشرت هذه الكتب واصدرت العديد من الطبعات منها، الاعتقال أثر علي من ناحية التأخر في الدراسة والابتعاد عن الأسرة وعن عملي، ولكن انا في المقابل استغليت الاعتقال في اصدار الكتب وتعليم الاسرى"، يقول أبو وردة.
ويكمل: "صحيح أنني لم أدرس الصحافة كدراسة علمية ولكنني أخذت دبلوم مهني في الصحافة ودورة بقناة الجزيرة في قطر لمدة 21 يوما والعديد من الدورات في مختلف البلدان التي تتعلق في الصحافة وكيفية تطوير مهاراتي فيها، والممارسة ساهمت بشكل كبير في زيادة خبرتي الصحفية التي ما زالت في منحنى التطور المستمر طوال 27 عاماً وحرصت دائما على مواكبة الصحافة وتطوراتها".
كان أبو وردة يمشي في مسارين بين التعلم الاكاديمي وإخراج الأبحاث وبين العمل الميداني وإخراج العديد من المخرجات، ويؤكد: "في بداية عملي كنت موظف عند الدكتور فريد ابو ضهير ثم فتحت مكتبي الخاص وهو مكتب أصداء، وتطور المكتب وما زلنا نواكب الإعلام لإبقاء أصداء حية، وقمت بإطلاق مبادرة تحت اسم مبادرة تجوال أصداء لتدريب الطلاب ميدانيا والحرص على التطبيق العملي وهنا نستفيد من ناحيتين وهي تدريب الطلاب والحصول على مادة تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بنا من صور وفيديوهات".
وأوضح أن هدفهم تربية الزملاء للدخول في سوق العمل والانخراط به، حيث ان هذه المنصة نجحت بشكل كبير واستطاعوا زيارة العديد من المدن والقرى والمخيمات في مختلف بقاع فلسطين".
ولا يزال أمين أبو وردة يواكب الحياة الصحفية بكل مجرياتها، حياته لم تتوقف عند محطة معينة، بل استطاع أن يصنع من اللاشيء شيئاً يتحدث عنه عشرات الاجيال القادمة.