نفوذ الصين في العصر الرقمي يفرض تحديا للإدارة الأمريكية الجديدة
تجمع حملة الصين للهيمنة بين الطموحات الدائمة وأساليب القرن 21 فهي لا تصرف نظرها بعيدا عن سعي بكين المتزايد لمناطق النفوذ. وعلى غرار عدد لا يحصى من القوى العظمى قبلها تهدف الصين إلى تشكيل محيطها والسيطرة عليه وتطمح لتهيئة مجالات جيوسياسية تحمي مصالحها وامتيازاتها. ويقول الباحث والمؤرخ الأمريكي هال براندز،في تقرير نشرته "بلومبرج" إنه مع ذلك فإن بكين تفعل ذلك جزئيا من خلال نهج العصر الرقمي للتنافس الاستراتيجي وهو نهج يجبر منافسيها على إعادة التفكير في دلالة مجالات النفوذ وأفضل السبل لمنافستها.
ويشير مصطلح "مجال النفوذ" بحسب الكاتب إلى منطقة يمكن فيها لدولة كبيرة ممارسة سلطتها على الأطراف الفاعلة الأصغر وإبعاد منافسيها من القوى العظمى. ومنذ القدم سعت القوى الطموحة إلى مناطق نفوذ لـ 4 أسباب أساسية هي الحماية (كحاجز استراتيجي ضد المنافسين) والظهور بقوة (كقاعدة آمنة يمكن من خلالها ممارسة التأثير العالمي) والربح (كطريقة لاستخراج الموارد والوصول إلى الأسواق وتسخير الاقتصادات الأصغر لصالحها) والمكانة (كرمز للوضع مقابل القوى الصغرى والقوى الكبرى على حد سواء). ومع ذلك فقد اختلفت الخصائص المتعلقة بتلك المجالات.
ويقول الكاتب إنه في القرن التاسع عشر على سبيل المثال تمتعت بريطانيا بما يسمى بإمبراطوريتها غير الرسمية في أمريكا الجنوبية حيث كانت تمارس نفوذها في المقام الأول من خلال تفوقها المالي والتهديد العابر للأفق للبحرية الملكية. وبعد الحرب العالمية الثانية سيطر الاتحاد السوفيتي على أوروبا الشرقية بقوة أكبر بكثير. وتسبب ذلك في إعادة اصطباغ الحكومات بصورتها الشيوعية بينما أستخدم أساليب الدولة البوليسية والجيش الأحمر لفرض الانضباط الجيوسياسي على البلدان الواقعة في قبضته.
وبعد الحرب الباردة بدا أن مجالات النفوذ قد اختفت لأنه لم يكن هناك سوى قوة عظمى واحدة هي أمريكا وكانت مصممة على حرمان أي منافس من مثل هذه الامتيازات. وأعلن نائب الرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن في 2009 "لن نعترف بأي دولة لديها مجال نفوذ". ومع ذلك من الواضح أن الصين لديها أفكار أخرى إذ يتميز مشروعها الجيوسياسي ببعض الأساليب التي قد يجدها دارسو المنافسات السابقة مألوفة والبعض الآخر أكثر حداثة.
وفي شرق آسيا وأماكن أخرى حول محيطها المباشر تهدف الصين إلى تهيئة مجال نفوذ تقليدي إلى حد ما. وأوجدت علاقات تجارية واستثمارية تهدف إلى جعل اقتصادات المنطقة تتمحور حول بكين أكثر وأكثر عرضة كذلك للإكراه الاقتصادي الصيني. إنها تستخدم قوتها العسكرية المتنامية للضغط على تايوان وربما غزوها في نهاية المطاف للمطالبة بمساحات واسعة في بحر الصين الجنوبي ولإجبار البلدان في جميع أنحاء المحيطين الهندي والهادئ على التردد قبل إثارة استياء بكين.
ومن خلال إضعاف العلاقات بين أمريكا وحلفائها وأصدقائها تهدف هذه الإجراءات وفقا للكاتب إلى إخراج واشنطن من المنطقة تماما كما طردت واشنطن منافسيها الأوروبيين من منطقة البحر الكاريبي. وتستخدم الصين على نحو متزايد حملات التأثير السياسي والمساعدات الموجهة إلى المسؤولين الفاسدين وغيرها من التدخلات الهادئة لتغيير سياسات المنطقة لصالحها. وقد ينكر المسؤولون العسكريون الصينيون سعي بلدهم إلى أي مجال نفوذ لكن في الواقع تسلك الصين طريقا سلكه أسلافها من القوى العظمى.
ومع ذلك فإن بكين تجلب لعبة مجالات النفوذ في الوقت نفسه إلى القرن 21 من خلال البحث عن مجال أكبر تحدده التكنولوجيا أكثر من الجغرافيا. ويستشهد الكاتب ببعض الطرق التي تبني بها بكين علاقات تكنولوجية من شأنها أن تربط البلدان عبر أوراسيا وخارجها حيث تقوم الشركات الصينية ببناء كابلات الألياف الضوئية ومراكز البيانات التي تشكل العمود الفقري المادي للإنترنت ومشروع طريق الحرير الرقمي يضع الشركات الصينية في قلب شبكات الاتصالات المتقدمة في جميع أنحاء العالم النامي وذلك بخلاف انتشار عالمي لتقنيات المراقبة الصينية وظهور عملة رقمية صينية تهدف إلى أن تكون وسيلة للتبادل على طول مبادرة الحزام والطريق.
ويهدف هذا المجال الناشئ للتأثير التكنولوجي في الصين إلى توفير نفوذ جيوسياسي عبر المركزية التكنولوجية بدلا من الهيمنة المادية. وسوف يساعد إنشاء أسواق جديدة للتكنولوجيا الصينية ومصادر جديدة للبيانات في تعزيز الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي ومجالات أخرى. وسيساعد التأثير التكنولوجي المتنامي للصين على اصطفاف الدول الصديقة أو المعتمدة عليها ببساطة وراءها في قضايا من حوكمة الإنترنت إلى قيادة المنظمات الدولية الرئيسية.
وبالتالي تواجه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مزيجا من التحديات الجيوسياسية القديمة والجديدة. وستتطلب مواجهتها استثمارات في أدوات جيوسياسية مماثلة مثل تعزيز القوة العسكرية في غرب المحيط الهادئ فضلا عن أدوات جديدة لفن الحكم مثل الحملات متعددة الأطراف للحفاظ على معايير الإنترنت الديمقراطية أو تقديم بنية تحتية رقمية ميسورة التكلفة للبلدان النامية. والوقت ينفد لسوء الحظ من أمريكا فنافذة أمريكا لإيقاف التوازن الإقليمي المتآكل قد تكون مفتوحة فقط لبضع سنوات.