تخضير أسطح المخيمات...اقتصادٌ مقاوم وحنين للجذور
شذا محمد العزة
مركز العمل التنموي/ معا
تتزايد أعوام النكبة بالاضطراد مع حالة اللجوء داخل المخيمات الفلسطينية، تحت وطأة نظام استعماري كولونيالي يمارس اضطِهاده الممنهج ضد الإنسان وبيئته، ويخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والإقتصادي، من خلال آلة المصادرة والاستيطان التي لم تتوقف عن التوسع والتجريف والاغلاق ومصادرة الاراضي، وبناء الجدار العنصري ونهب المياه ونزع السيادة الوطنية الغذائية والتحكم في الأمن الغذائي، في ظل وجود بروتوكولات فلسطينية – اسرائيلية مثل بروتوكول باريس الإقتصادي الموقع عام 1994 والذي أَكَّدَ التبعية الإقتصادية لإقتصاد المستعمِر وحَوَّلَ الأراضي الزراعية سوقاً له.
كل ما سبق؛ أدى إلى انعدام تحقيق السيادة على الغذاء المبنية على أسس الزراعة المحلية الوطنية، وهدفها أن يكون الإكتفاء الذاتي غذائيا، وأن يكون الحق لجميع الناس في تقرير أنماط انتاجها واستهلاكها الغذائي بطريقة بيئية سليمة ومستدامة ومنسجمة مع التراث والثقافة المحليين، وفي الوقت ذاته تحقيق رفاهية المزارع والمستهلك وليس التاجر؛ وشركاته الزراعية الاحتكارية.
وأمام هذا الواقع الإقتصادي المرهون بالاحتلال في عملية الإشباع والتجويع، والمتكئ على الدعم الأجنبي المشروط، والمتشبث أيضا بطروحات وسياسات اقتصادية هشة منها التزام السلطة الفلسطينية دون تنفيذ بأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2015 ، والتي تدعوإلى إنهاء الفقر وضمان تمتع جميع الناس بالسلام والازدهار بحلول عام 2030. حيث نص الهدف الثاني منها على "القضاء تماما على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتشجيع الزراعة المستدامة بحلول عام 2030".
لكن أظهرت الدراسات التي أجريت نهاية عام 2017 من خلال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، بأن ثلُث الأسر الفلسطينية (31.5%) أو ما يعادل 1.6 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، إضافة إلى أن الزراعة المستدامة تشكل مشكلة دائمة في السياق الإجتماعي والإقتصادي والتنموي الفلسطيني، بسبب انعدام السيادة على الموارد الطبيعية والوصول اليها من الأرض والمياه والأصول النباتية والحيوانية.
فوفقاً للأوامر العسكرية الاسرائيلية لعام 1967، والتي سيطرت بشكل مطلق على الموارد الطبيعية وعززت السيادة الاسرائيلية عليها كما جاء في أمر رقم (92) و (389) ، حيث عمل الاحتلال على نقل الحقوق السيادية على الموارد الطبيعية في الضفة الغربية إلى سلطة مختصة يعينها الحاكم العسكري. إن هذه السياسة؛ تشكل انتهاكا صارخاً للقانون الدولي كما وتحرم الفلسطينيين من الوصول إلى مواردهم الطبيعية المكدّسة في ما يسمى منطقة (ج) والتي تشكل 61% من مساحة الضفة الغربية الواقعة تحت السيطرة الكاملة للجيش الاسرائيلي من الناحيتين الأمنية والمدنية.
مخيم عايدة والاقتصاد المقاوم
لقد أفضى هذا الحرمان المتواصل بالسكان الأصليين وباقتصادهم، إلى الاعتماد الكلي على المستعمِر، ما أدىإلى انحسار الزراعة الفلسطينية، فبلغ حجم الاستيراد الزراعي من "اسرائيل" بحسب تصريحات وزارة الزراعة الفلسطينية إلى مليار و 200 مليون دولار سنوياَبالمتوسط خلال السنتين الأخيرتين.
وفي ظل هذه الظروف؛ تنبثق مبادرات شعبية تحثُّ على تشجيع الإقتصاد الوطني المقاوم وتعزز صمود الشعب اللاجئ داخل المخيمات الفلسطينية، وهي الزراعة على أسطح المنازل في مخيم عايدة الواقع شمال مدينة بيت لحم، والممتد فوق مساحة تبلغ 0.07 كم² ومحاط بستة أبراج عسكرية،عدا أنه أكثر بقعة في العالم معرضة للغاز المسيل للدموع بحسب دراسات أجريت عام2017 من خلال باحثين في جامعة كاليفورنيا بيركلي.
ينتمي اللاجئون الأصليون في المخيم إلى 41 قرية مهجرة ويعيش فيه حاليا 6000 نسمة وفقاً لإحصاءات وكالة الغوث؛ يعاني سكان المخيم من الوصول إلى الموارد الطبيعية كالأراضي الزراعية وخاصة بعد بناء جدار الفصل العنصري الذي اقتطع عشرات الدونمات من الأراضي الزراعية التي كانت مصدراً لجني ثمار الزيتون والتين والزعرور، ومنفذاً لأراضٍ أخرى إلى مدينة القدس.
كما أفرزَ الاحتلال بيئة قهرية حرمت سكان المخيم من الحصول على كميات كافية من المياه لتلبية متطلبات حياتهم اليومية والزراعية. وفي هذا السياق يقدّر متوسط ما يحصل عليه السكان في المخيم من المياه بنحو 51 لتراً للفرد في اليوم، وهي كمية تقلُّ بصورة ملموسة عن الكمية المحددة بـ 100- 150 لتراً للفرد في اليوم، والتي تَعدُّها منظمة الصحة العالمية كافية لضمان بقاء الانسان. إن هذه الكمية الضئيلة لا تتناسب - وعلى نحو يميط اللثام عما يتعرض له الفلسطينيون من معاملة تمييزية - مع الكمية التي يحصل عليها المستعمرون الاسرائيليون في المستعمرة المجاورة للمخيم "جيلو"، والتي تبلغ حصة المياه فيها 300 لتراً للفرد في اليوم.
العودة للجذور
إن هذه البيئة القهرية وما يتبعها من إرهاصات هي أشد ضراوة على اللاجئ وبيئته داخل المخيم، وقد أدت إلى خلق وحدة بيئية في مركز "لاجئ"تُعنى بالقضايا البيئية المختلفة وترسخ علاقة اللاجئ بأرضه، فقد عملت على استقلال 40 أسرة زراعياً من خلال توفير أحواض زراعية على أسطح منازلهم وهذا بدوره يشكّل حالةً بسيطة من الاعتماد على الذات للوصول إلى حالة من السيادة الوطنية على الغذاء التي توفر للأسرة احتياجاتها الغذائية مُستغلة الحيازات الصغيرة بين الاكتظاظ المستفحل، وتعود عائلات المستفيدين من المشروع الزراعي إلى أصول فلاحية حُرمت من مئات الدونمات الزراعية وتبعد عن مكان سكنهم بضعة كيلومترات، ولهذا فإن الزراعة تجسد الهوية الوطنية الفلسطينية برموزها الفلاحية وارتباطها بالأرض.
يتبنى المشروع منهج الزراعة البيئية المتنوعة المتعددة وليست الأحادية، بالإضافة إلى خلوّها من الأوساخ الكيميائية معتمدة على السماد العضوي، وبهذا يحسن من صحة النظام الغذائي للمنتفعين منها، وخاصة المصابين بالأمراض المزمنة من خلال زراعة أنواع مختلفة من الخضار والفواكه. وقد أكد ذلك أحد المنتفعين عبر توقفهعن شراء عددٍ من المنتجات الزراعية من السوق وخاصة لعدم تأكده من مصدر المزروعات وطريقة انتاجها، يقول: "نحن نشتري الأمراض بأثمانٍ باهظة".
مصدر دخل وفوائد أخرى
يشجع المشروع المنتفعينعلى العمل بالزراعة كنشاط فيزيائي يومي يساهم في نشر المعرفة بالموروث الوطني الزراعي للأجيال القادمة، ويعزز النسيجالاجتماعيويترك بصمة بيئية ايجابية، علاوة على العلاقة الفطرية المتينة التي تربط الإنسان بنظم الحياة الخضراء وتحسن من نفسيته وجهازه المناعي، فقد قالت إحدى المنتفعات: "أُلقي بهمومي عند رؤيتي لمزروعاتي تكبر، كما أني أفرّغ طاقتي السلبية من خلال عملي في الزراعة".
إن هذه الحدائق المنزلية؛ تزرعها فلاحات وُرِثنَجينياً موسم الحصاد من أيادٍ شققها التراب وسنابل القمح. من خلال الزراعة المنزلية تقوم النساء بالإدخار ولو بجزءٍ بسيط من دخلهن، حتى يكون ملاذاً لهنّ في الأزمات،يجنبهن الإنتكاسة في عجلة الإستهلاك ويشجعهن على تنمية الثقافة الذاتية في الإنتاج والادخار، كما يضمن تحقيق جزءٍ بسيطٍ من السيادة الغذائية وهي الحق في انتاج الغذاء لتأسيس اقتصاد مقاوم يؤكد ممارسة حق العودة في الهواء الطلق، الذي يعلو الجدار وأبراج المراقبة المسلحة، وكأنذرات الهواء تحمل معها حبوب اللقاح لتذرها فيقرى سكان المخيم الأصلية.
في ذات السياق، لا بد من التأسيس لعملية تغيير بنيوي جذري في أنماط توليد الدخل بالاستفادة من المورد المعيشي وهو الزراعة؛ وبالتالي تحقيق استقلال اقتصادي يوفر مقومات الصمود المقاوم لمواجهة الاحتلال المبني على النضال لانتزاع السيادة الغذائية الوطنية والانتقال من النهج القائم على التبعية للمستعمر والمساعدات الخارجية؛إلى الاستقلال والاعتماد على الذات في انتاج محاصيل ذات تنوع حيوي عضوي، بالاضافة إلى ضرورة دعم وتعميم الحدائق الغذائية الجماعية والتعاونيات المبنية على المعرفة التقليدية المتوارثة ليزدهي الزرع على سطح كل منزل لاجئ في مخيمات اللجوء،إلى حين عودتهم. فهي رسالة تقول بأن الأرض جدتنا الأولى والأخيرة واليها نعود، وأن احتلال الأرض وسياسة الاستيطان والضم والمصادرة لنتَقْتَلِعَ أشجار الزيتون والرمان من الذاكرة.