هل ساعد العزل نيوتن في اكتشاف الجاذبية؟
في 25 يوليو/تموز 1665 مات طفل في الخامسة من عمره في بيته الواقع بمدينة كامبريدج البريطانية، وحين فحصت السلطات في المدينة جثمانه لاحظت بقعا سودا على صدره، وهي واحدة من أعراض الطاعون المعروفة.
كان الطفل أول حالة تُعرف إصابتها ووفاتها بذلك المرض في المدينة البريطانية ذلك العام، وهو ما كان يعني أن الوباء، الذي تفشى في لندن قبل شهور قليلة، قد وصل المدينة الواقعة على بعد 60 ميلاً شمال العاصمة البريطانية.
على الفور، هرب سكان كامبريدج إلى الأرياف لتجنب الوباء وعزل أنفسهم عنه، وكان من هؤلاء الفارين من الطاعون باحث شاب في كلية ترينيتي في كامبريدج يدعى إسحاق نيوتن الذي ذهب لمزرعة منعزلة تبعد 60 ميلاً عن الجامعة، ووضع هناك أسس حساب التفاضل والتكامل وقوانين الحركة، واكتشف الجاذبية وغيرها.
وهكذا هيأ طاعون لندن في القرن الـ17 الظروف المناسبة لميلاد العلم الحديث، أو هكذا تزعم القصة التي يتم استدعاؤها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل مكثف مع تفشي جائحة كورونا باعتبارها مثالاً يُحتذى لما يمكن تحقيقه في زمن الحجر المنزلي، إذ يقبع نصف سكان الأرض تقريبا في بيوتهم تجنبا لتفشي العدوى.
وتعد أفكار نيوتن بشأن قوانين القوة والجاذبية من أهم بذور أيديولوجية "التنوير" في عصر النهضة الأوروبي، إذ قام الفلاسفة الأوروبيون اللاحقون لنيوتن، مثل الإنجليزي جون لوك والفرنسي فولتير، بتطبيق مفاهيم القانون الطبيعي على الأنظمة السياسية التي تدعو للحقوق الجوهرية، بينما طبق الاقتصاديون مثل آدم سميث المفاهيم الطبيعية لعلم النفس والمصلحة الذاتية على الأنظمة الاقتصادية، وكتب فولتير في مقاله عن الشعر الملحمي (1727) "السير إسحاق نيوتن يمشي في حدائقه، فكر أولا في نظام الجاذبية عند رؤية تفاحة تسقط من شجرة".
تفاحة نيوتن
وفي مقاله بمجلة نيويوركر، كتب أستاذ الكتابة العلمية بجامعة "ماساتشوستس" ثوماس ليفينسون أن نموذج نيوتن لا يمكن تكراره لأنه لن يبلغ أحد مستوى إنجازاته مطلقا (في الوقت الراهن)، ولا تبدو مقولة إن الطاعون ألهم عبقرية نيوتن صحيحة، بحسب الأكاديمي الأميركي الذي يرى أنها مضللة إذا تم استدعاؤها كنموج ومقياس لنجاحنا في موسم جائحة كورونا الحالي.
ويقول ليفنسون إن سقوط التفاحة على الرأس كان جزءا من المشكلة، وكانت هناك شجرة تفّاح حقا على الجانب الآخر من الطريق مقابل باب منزل نيوتن الريفي، ولا تزال حديقة صغيرة هناك حتى الآن، وحكى نيوتن القصة بنفسه في أواخر حياته مستذكرا أنه كان يتأمل الشجرة ذات يوم فلاحظ أن القمر في مداره والتفاحة على غصن الشجرة يخضعان للقوى الطبيعية نفسها.
ويستدرك الكاتب أنه من السهل أن يقفز القارئ من ذكريات رجل مسن إلى أن هدوء الريف أشعل شرارة ميلاد علوم حديثة واكتشاف الجاذبية، لكن الحقيقة هي أن الأفكار العظيمة تتطلب عملا مرهقا يتضمن ملاحظة طويلة وتفكيرا عميقا وليس "في صورة صواعق رعد يمكن أن يأتي الإلهام في ظروف مواتية مثل العزلة الإجبارية أثناء تفشي وباء".
وكما كتب محرر سيرة نيوتن الذاتية ريتشارد ويستفال، موثقًا بدقة تطور الفكرة عندما بدأ نيوتن يفكر في أكثر الأسئلة إلحاحا في العلوم أثناء استمراره في الدراسة من أجل امتحاناته في غرفة في كلية ترينيتي خلال العام الذي سبق وقوع الطاعون.
وتسرد وثيقة مكتوبة بخط يد نيوتن المشاكل التي كان يحاول حلها، ومن بينها -كما يكتب ويستفال- "المادة والمكان والوقت والحركة والنظام الكوني، ثم الضوء والألوان والرؤية.."، واستمرت القائمة من خلال الأسئلة التي سيتابع بحثها على مدى العقدين التاليين.
وفي السنة التي سبقت الطاعون، 1664، بدأ نيوتن التفكير بعمق في الرياضيات، واكتشف في نفسه الموهبة الاستثنائية للتفكير المجرد، وهي الموهبة التي ستزدهر عندما وصل إلى منزله الزراعي، ويؤكد الكاتب أن ما مكّن نيوتن من إنجازاته العبقرية أثناء وبعد العزلة الإجبارية في زمن تفشي الطاعون، لم يكن الانتقال للمكان الريفي الهادئ، وإنما التفكير المستمر في الموضوع، وهو ما كتبه بنفسه عندما سُئل عن كيفية اكتشافه الجاذبية.
ويختم الكاتب مقاله بالقول إن القيام بعمل ما ينبغي عمله هو ما أدى لاكتشاف نيوتن، واستفاد بالطبع من تراكم كبير في علوم الرياضيات والفلاسفة والطبيعة عبر العصور، وهذا ما فعله نيوتن وهو طالب في كامبريدج قبل الطاعون، واستمر بعد ذلك، ووصف نيوتن في مذكراته سنوات الطاعون بأنها كانت "في أوج عمري للاختراع والرياضيات والفلسفة الذهنية أكثر من أي وقت مضى".