اقتصاديون يدعون إلى إعادة النظر في سياسات الإقراض
دعا خبراء اقتصاد إلى إعادة النظر في سياسة الائتمان في الجهاز المصرفي، وتوجيهه نحو القطاعات الإنتاجية بدلا من التركيز على القروض الاستهلاكية للأفراد، وقطاع الخدمات، والقطاع الحكومي.
ورأى هؤلاء، خلال المؤتمر المصرفي الفلسطيني الدولي 2019 الذي عقد في أريحا، اليوم الأربعاء، بعنوان "التمويل المصرفي وآفاق التنمية الاقتصادية"، أن نجاح البنوك في أداء دورها كرافعة للتنمية الاقتصادية عبر زيادة تمويلاتها للقطاعات الإنتاجية ليس مهمة البنوك وحدها، وإنما يحتاج إلى تضافر جهود جميع الأطراف وتناغم بين السياسات المالية والاقتصادية والنقدية.
وشارك في المؤتمر عشرات الخبراء والمصرفيين، محليين ودوليين، ورجال أعمال من مختلف قطاعات الاقتصاد، وناقش المشاركون نتائج السياسات الائتمانية لجهات الإقراض في فلسطين في الفترة 2010 - 2018، وأثارها ونتائجها في تمكين القطاعات الاقتصادية المختلفة، والسياسات المطلوبة لإيجاد بيئة استثمارية مواتية للقطاعات الإنتاجية خلال السنوات المقبلة، وبما يتواءم مع خطة الحكومة للتنمية الاقتصادية.
وقدم مدير دائرة الأبحاث والسيات النقدية في سلطة النقد محمد عطا الله عرضا حول واقع التمويل المصرفي في 2010 – 2018، من حيث: النمو، والقطاعات المستفيدة، والتوزيع الجغرافي.
وقال عطا الله إن الجهاز المصرفي على مدى السنوات العشر الماضية سجل قفزات كبيرة في كل مؤشراته المالية، مخالفا بشكل لافت مؤشرات الاقتصاد الكلي.
فعلى صعيد الاقتصاد، شهد النمو خلال هذه الفترة تباطؤا مضطردا، ليتراجع النمو في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني إلى أقل من 1% في العام 2018، في حين كان النمو في معدل دخل الفرد سالبا ليتراجع بنسبة 1.7%، في حين ارتفع معدل البطالة ليقترب من 31% في العام 2018، وهو أداء قال عطا الله إنه "أداء غير قادر على توليد فرص عمل كافية للداخلين الجدد إلى سوق العمل".
في المقابل، قال عطا الله إن الجهاز المصرفي شهد خلال الفترة نفسها نموا كبيرا في كافة مؤشراته المالية، حيث نما إجمالي الأصول بأكثر من 83% من 8.8 مليار دولار في العام 2010 إلى أكثر من 16 مليار دولار في العام 2018، فيما ارتفعت محفظة الائتمان (القروض) خلال الفترة نفسها بنسبة اقتربت من 200% من 2.8 مليار دولار إلى حوالي 8.5 مليار دولار، مشكلة حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في عام 2018.
ومن إجمالي التسهيلات، يستحوذ القطاع الخاص على أكثر من 7 مليارات دولار أو بنسبة 84%، مقابل 16% للقطاع العام.
وفي جانب القطاع الخاص، فإن الشركات تحوز على نحو 50% من إجمالي التسهيلات مقابل 45% للأفراد.
جغرافيا، فإن الضفة الغربية تستأثر بنحو 89% من إجمالي محفظة الائتمان للجهاز المصرفي، مقابل حوالي 11% لقطاع غزة.
وفي تعقيبه على ذلك، قال أستاذ الاقتصاد في الجامعة العربية الأمريكية نصر عبد الكريم، إن هيكل محفظة الائتمان المصرفية "مشوهة كما هو حال الاقتصاد الفلسطيني عموما، وهي لا تلبي متطلبات التنمية الاقتصادية"، لكنه أخلى مسؤولية البنوك عن هذا التشوه.
وأضاف: البنوك تحاول تلبية الطلب على القروض، ومصدره في الأساس قطاع الخدمات والاستهلاك والقطاع الحكومي. المشكلة ليس في عدم وجود رغبة البنوك في إقراض القطاعات الإنتاجية، وإنما المشكلة في جانب الطلب، حيث تشهد القطاعات الإنتاجية تراجعا مستمرا من عام لآخر، حيث تراجعت مساهمة قطاع الزراعة في الناتج المحلي إلى 3% والصناعة إلى 11% والسياحة إلى أقل من 2%".
وتابع: لهذا ليس غريبا أن نرى تشوها في الائتمان، وهو تشوه لا تتحمل مسؤوليته البنوك، فهي تبحث عن عوائد بأقل قدر ممكن من المخاطر، وهذا متوفر في قطاع الاستهلاك والقطاع الحكومي، حيث العوائد عالية يقابلها صفر مخاطر تقريبا".
ولتعديل هذا الاختلال في هيكل المحفظة الائتمانية، قال عبد الكريم إن "على سلطة النقد والبنوك التخلي عن كونها صاحبة رسالة التنمية، واعتبار نفسها جزءا منها إلى جانب لاعبين آخرين كثر، يجب أن يعملوا جميعا بشكل متناغم".
وقال عبد الكريم إن توجيه الائتمان نحو القطاعات الإنتاجية "يتطلب تطوير علاقات جديدة مع باقي الأطراف، ومشاركتها في المخاطر".
ولتحقيق هذا الهدف، اقترح عبد الكريم صندوقا، تشارك فيه جميع البنوك، ويستثنى من الاحتياطي الإلزامي لسلطة النقد، وتوجه تمويلاته نحو القطاعات الإنتاجية الريادية حصرا.
وقال: هكذا صندوق يوزع المخاطر، وفي الوقت نفسه يمكن أن يشكل وعاء لتمويلات من أطراف أخرى كالجهات المانحة.
وكان محافظ سلطة النقد عزام الشوا استهل أعمال المؤتمر، مؤكدا أن دعم السياسات الاقتصادية العامة الهادفة لتحقيق النمو والتنمية المستدامة "يعتبر أحد المهام الرئيسة لسلطة النقد".
وقال إن القطاع المصرفي الفلسطيني أضحى يحتل مركزا مهما ومتناميا في الاقتصاد الفلسطيني، خاصة في ظل الاستراتيجية الشاملة التي وضعتها سلطة النقد منذ عام 2006، وهدفت بشكل أساسي إلى تعميق الروابط بين القطاع المصرفي والمالي من جهة، وقطاعات الاقتصاد الفلسطيني المختلفة من جهة أخرى، وتأسيس البنية التحتية المالية والمصرفية الضرورية لتعزيز الاستقرار المالي في الاقتصاد الفلسطيني، والارتقاء بالجهاز المصرفي وجعله أكثر متانة وحداثة وجودة في تقديم الخدمة المصرفية، وبما يضاهي الأنظمة المصرفية العالمية.
وأضاف أن سلطة النقد، ومن خلال التعاون مع القطاع المصرفي، كانت سباقة في إطلاق العديد من المبادرات لتعزيز دورها في مجال التنمية الاقتصادية، ومن هذه المبادرات تعزيز الشمول المالي، الذي توج بإطلاق الاستراتيجية الوطنية للشمول المالي، واستراتيجية تمكين قطاع التمويل الأصغر في فلسطين، وتمكين المشاريع الصغيرة والمتوسطة من النفاذ إلى مصادر التمويل، وتنشيط قروض الإسكان والرهن العقاري، والعمل على تمكين المرأة الفلسطينية اقتصاديا وماليا.
وفي هذا السياق، قال الشوا إن سلطة النقد أصدرت مؤخرا تعليمات جديدة تسمح بموجبها للمصارف بالمساهمة في شركة أو شركات فلسطينية ناشئة يكون من غاياتها ممارسة أنشطة الإنتاج الزراعي والحيواني أو الطاقة البديلة أو تكنولوجيا المعلومات، والتي تدعم الإبداع والابتكار والشركات الناشطة في مجال المحافظة على البيئة، كما سمحت التعليمات مشاركة أكثر من مصرف في إنشاء هذه الشركات على ألا يتجاوز الحد الأقصى لحصة المصرف أو المصارف 80% من رأسمال الشركة، في واحدة من رزمة من التعليمات التي تهدف إلى توجيه الائتمان للقطاعات الاقتصادية المدرة للدخل، التي توفر فرص عمل وتشجع الرياديين على المبادرة وإطلاق مبادرات تنموية وتشغيلية تعزز من فرص العمل.
وقال: إن المساهمة الفاعلة في التغلب على المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني، وإعادته إلى مسار التعافي والنمو، وخلق فرص عمل جديدة وتحسين مستوى معيشة المواطن الفلسطيني لتعزيز صموده، يتطلب من سلطة النقد والجهاز المصرفي التركيز على جانبين، أولاهما إعادة النظر في تجربتنا وسياساتنا الائتمانية وتقييمها، وثانيهما تطوير سياسات ائتمانية جديدة تستهدف بدرجة أساسية بعض القطاعات الاستراتيجية التي تخدم عملية التنمية الاقتصادية المستدامة، وبما يتوافق مع خطة الحكومة للتنمية الاقتصادية للسنوات المقبلة، مشيرا إلى أن فلسطين تمتلك مجموعة من نقاط القوة ذات الأثر الإيجابي على التنمية، ممثلة بحداثة الإدارة الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني، ورأس المال البشري، والعمق العربي والإسلامي، والسياسات الحكومية ذات العلاقة.
من جهته، قال رئيس مجلس إدارة جمعية البنوك في فلسطين ماهر المصري إن البنوك لعبت دورا مميزا في فلسطين، خاصة خلال السنة الماضية التي واجه فيها الشعب الفلسطيني وسلطته وحكومته أزمة شديدة وظروفاً صعبة، داعيا إلى تكاتف جهود سلطة النقد والبنوك والحكومة لتجاوز الوضع الذي لا يزال غير مستقر من الناحية السياسية والمالية والاقتصادية.
بدوره، اعتبر الممثل المقيم لمؤسسة التمويل الدولية في فلسطين يوسف حبش أن قيام الجهاز المصرفي بدوره المأمول يتطلب ثلاثة عناصر رئيسية، أولها وجود استراتيجية لتعزيز الشمول المالي وهو ما قامت به فعلاً سلطة النقد، وخلق بيئة تنظيمية مواتية للاستثمار، وتطوير منتجات وخدمات مصرفية مختلفة وجديدة من أجل تخفيف مخاطر الإقراض.
وأضاف: لا بد من النظر في كيفية الاستفادة من التطور التكنولوجي الهائل في مجال الخدمات المالية، الذي يشكل فرصة لتحفيز النمو الاقتصادي من خلال زيادة قدرة الأفراد والمؤسسات على الحصول على التمويل والخدمات الأخرى التي تعمل على دمجهم في الاقتصاد وتحويلها لعناصر فاعلة فيه.
من جهته، دعا ممثل جمهورية ألمانيا الاتحادية لدى فلسطين السيد كرستيان كلاجيس إيلاء القطاعات الاقتصادية المختلفة، خاصة المشروعات الصغيرة والمتوسطة أهمية في من حيث التمويل، مؤكدا التزام حكومته بالاستمرار في دعم الشعب الفلسطيني، سواء مباشرة أو عبر الاتحاد الأوروبي، لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، ودعم جهود التنمية في فلسطين.
وتوزعت أعمال المؤتمر على ثلاث جلسات، تناولت الأولى تحليل المحفظة الائتمانية للمصارف، فيما ناقشت الثانية الفرص والتحديات والأدوات التحفيزية لتمويل القطاعات الإنتاجية، وكانت الثالثة بعنوان "دور السلطات والهيئات الرقابية في تعزيز التنمية الاقتصادية".