حلم العودة
بعد 71 سنة على النكبة.. نعمة تعود لـ "عراق المنشية" المهجرة
الخليل- رايــة: طه أبو حسين
٧١ سنة مرّت على تهجير نعمة عطا الله الراعي من قريتها (عراق المنشية) قضاء المجدل عسقلان التابعة لمدينة غزة، وما زالت الحاجة نعمة تتكأ على أمل العودة، ووسادة الجغرافيا القديمة تلازم رأسها رغم كلّ التغيرات الجغرافية، فهي كما تقول:"كل العتيق بدماغي، وأنا لا أرى إلا بالخارطة القديمة".
في مخيم العروب شمال محافظة الخليل، قادتنا عملية البحث والتفتيش عمّن عايش عام النكبة الفلسطينية "1948"، فتعثرنا بالحاجة نعمة عطا الله عبد العزيز الراعي التي ولدت في عراق المنشية قبل ذلك التاريخ الأسود بأربعة أعوام، وذاكرتها الطفولية تحتفظ بما قد يغيب عن كتب التاريخ.
"في الليل نتعرض للرماية من العصابات الصهيونية وأهالي القرية يصدّوها ببندقية (أم فشكة)، يأخذونا لواد الفول ساعتين أو أكثر حتى يهدأ الوضع يعيدونا لعراض المنشية، لكن العدوان بعد ذلك أصبح يتكاثر، وصار هناك مواجهة كبيرة". قالت نعمة.
كلّ من كان يسكن عراق المنشية كان يحمل روحه على كفّه خلال تحركه لا سيّما عند الإبتعاد عن المنازل. قالت الحاجة نعمة " جاءت كتيبة من الجيش المصري على عراق المنشية ودخلوا البلد ولما دخلوها اختلفت المعادلة من الرماية لبندقية أم طلقة صارت مدفعية وصار طيران وأصبح الأمر لا يطاق".
"ما طلعنا من البلد إلا لما صارت الهجمة القوية وأغلقت القرية علينا ستة شهور، فلا أكل يدخل إلينا ولا أي مقوّم للحياة، نأكل الخبز بلا ملح، ولا حطب ولا طوابين، متنا برد فترتها لعدم وجود الكاز" قالت الحاجة نعمة.
عند قرار الهجرة الذي لم يكن له بديل كما تقول الحاجة نعمة بعد غياب مقومات الحياة ووضعهم بين فكي الموت جوعًا أو الموت بهجمات العصابات الصهيونية، خرجوا للشارع وانتظروا المركبات لنقلهم، لكن أيّة مركبات؟! تجيب نعمة "شهر ونحن ننتظر على الطريق ننتظر بسيارات اليهود لتوصلنا للحدود التي سنذهب إليها".
ذلك اليوم (يوم النكبة 1948) لم يكن كأي يوم على نعمة وكلّ من هجّر من أرضه. " ذلك اليوم لا موت أب ولا موت أخ مثله، ولا شيء يشبهه، الشباب والختيارية يبكون" قالت نعمة بينما كانت تمسح دموعها حتى مسحت وجنتيها استأنفت " سيارات اليهود التي نقلتنا عندما وصلت المنطقة بين اذنا وترقوميا غرب الخليل، كانت تدير خلفيتها لخلفية سيارة أردنية وننزل بها دون أن ننزل على الأرض، وأخذونا مباشرة الى منطقة الكراج العتيق قرب الحرم الإبراهيمي في الخليل".
بعد 71 سنة على عمر النكبة، وبعدما استنزفت دموع نعمة وعبير الحياة فيها، جاءتها الفرصة التي حلمت بها مطّولًا، حلم العودة، فعادت لمسقط رأسها عراق المنشية، وتنفست هواءها، وتغسلت بترابها قبل أن تشدّ مرة أخرى إلى اللجوء " جاءني تلفزيون هولندي، وأخذني لعراق المنشية حتى أحكي له قصة النكبة، وهناك تذكرت كلّ طفولتي".
عند هذه المحطة، إستوقفتنا دموع الحاجة نعمة وسألناها عمّا بقي منذ ذلك التاريخ المشؤوم، فقالت " التل كما هو، فجدي كان يسكن التل، والتل منطقة مشرفة على البلد، فهناك كنت أتمتع بطفولتي، وهذه المنطقة الجغرافية لن تزول من رأسي".
بينما كانت على التل بعد 71 سنة من النكبة، خطر على بال نعمة فنجاة قهوة كان يعدّه جدّها، ما جعلها تنشد باكيةً والحسرة عنوانها " يا جرن القهاوي وين أهاليك، إلي زمان ما سمعت النبض فيك، راح الفنجان يشكي للأباريق، بكا المحماس عيطت إنتَ".