خاص
شهداء ناجون يسردون قصص مجزرة الإبراهيمي
الخليل- رايــة: طه أبو حسين-
"إلتفتُ إلى الوراء، ورأيت باروخ جولدشتان واضعا سماعات بأذنيه، له لحيه (ذقن) طويلة، ممسك بسلاحه وهو يطلق النار علينا، ثم أصابني عنقي برصاصة فغبتُ عن الوعي ستة أشهر ممتالية". قال كمال عابدين واصفًا ما حدث قبل ربع القرن في المسجد الابراهيمي بمدينة الخليل والذي أصيب بشلل نصفي نتيجة اصابته بالرقبة وقطع حبله الشوكي.
(الشهيد) كمال عابدين؛ كذلك تم تداول الخبر في حينها، غير أن الشهيد حي، فبعث للحياة من جديد بعد ستة أشهر غيّب بها عن الواقع، واليوم يسرد وقائع مذبحة الحرم الابراهيمي كأنها تروى لأوّل مرة على لسانه "استيقظت بمدينة الحسين الطبية بالأردن بعد ستة شهور، وظننت نفسي غبت عن الوعي فقط ساعات، لم أتصور هذه المدة الطويلة، فأنا لم استوعب الصورة إلى الآن كوننا كنا بين يدي الله".
قبل استكمال قصة عابدين الذي لم يزر الحرم إلا ثلاث مرات منذ المذبحة، هناك قصة شاب سحبه القدر من دائرة الموت لمحيطها، والذي رصد بعينيه أكثر مما يستطيع الإنسان تحمّله كما يقول المصور الصحفي مأمون وزوز، ثم يعرضُ علينا شريط الصور المكرر في عينيه وذاكرته "أنا حاليا أرى المشهد بعيني، باشر جولدشتاين باطلاق النار في لحظة نزول المصلين للسجدة وهي لحظة من ناحية عسكرية ثمينة كونها تتيح القضاء على عدد أكبر من المصلين، المشهد أصعب من أن يوصف بكلمات".
"كان مشهدًا غوغائيا ضبابيًا، ملبدا، ملخبطا بكل أنواع الوحشية، كان مشهدً دراميا إن صح التعبير، مشهدا قاسيا جدا، رأيت ناس يوميا ألتقي فيهم يموتون أمامي ولا أستطيع مساعدتهم، ناس تستغيث، تصرخ، تلفظ أنفاسها الأخيرة، خرجتُ عن عقلي، فالمشهد أصعب من أن يدركه طفل عمره 17 او 18 عامًا" قال وزوز.
في كلّ قصة ألف قصة وقصة، وفي المجزرة التي وقعت في الخامس عشر من شهر رمضان عام 1414هـ، الموافق 25 شباط 1994، يروي مأمون قصة شهيد صورته حيّة في ذاكرته"، رجل كان يستشهد، يتلفظ أنفاسه الأخيرة، طلب مني ماء، فقلت له الدنيا ببساطة طفل (الدنيا رمضان)، فنظرت لمكان آخر فكان هناك شاب يريد مساعدة طفل مصاب بقدمه، فلما رفعه كسرت ، فبدأت أصرخ عليه من غير عقل".
إمام المسجد الإبراهيمي يوم المجزرة الشيخ عادل إدريس والذي استشهد شقيقه خلالها يروي زاوية أخرى من مشاهد المجزرة "لم يكن باروخ جولدشتاين وحده من يطلق النار، فكان هناك حوالي 15 مستوطنا وراء باب الحضرة الابراهيمية يطلقون النار فاستشهد 29 مصليا، وجرح حوالي 200 آخرين".
بالعودة إلى كمال عابدين والليلة التي سبقت مجزرة الحرم، يقول "عادة الإحتلال كان يستخدم البوابات الإلكترونية، يومها لم يستخدمها، وفصل النساء عنا، وهذا الأمر كان مربكًا، خاصة أن المستوطنين هددونا وقالوا أن لعنة ستصيبنا في الغد، أي يوم المذبحة".
باروخ جولدشتاين، طبيب يهودي، المنفذ الرئيس لمذبحة الحرم الإبراهيمي، وسانده مجموعة أخرى من المستوطنين، ورجّح أهالي أن العملية مدبرة لا سيّما من التهديدات التي تعرضوا لها قبلها بليلة وما حصل مع مأمون وزوز خلال مغادرته موقع المجزرة "وأنا خارج دخل مجموعة من الجنود، فسألوني من الذي عمل ذلك؟ فقلت جندي. فضحكوا، ثم خرجنا واستمرت المجزرة لخارج الحرم الإبراهيمي، فرأيت إعدامات كثيرة امتدت في محيط المستشفى الأهلي والخليل الحكومي والمقبرة".
إنتهى الجزء الأول من المجزرة الإبراهيمية، ثم بدأت مجازر أخرى على المستوى الإجتماعي والاقتصادي وغيرها من المستويات لا سيّما السياسية بتشكيل ما يعرف بلجنة "شمغار" للتحقيق بالمذبحة والتي نتج عنها إغلاق المسجد ستة أشهر، مكافأة الجلاد ومعاقبة الضحية، فجعلوا لباروخ مزارا كقديس، وأكلوا من مساحة الحرم 54%، كما يمنع الأذان أكثر من خمسين فرضا كل شهر، وتم إغلاق حوالي 2000 محل تجاري بين اغلاق كلي وجزئي. كما يغلق المسجد أمام المسلمين بشكل كلي 12 يوما في الأعياد اليهودية.
وأغلق شارع الشهداء، الشارع الرئيس الذي يربط شمال المدينة بجنوبها، ولم يفتح الى اليوم، وتضاعفت الحواجز بمحيط الحرم الإبراهيمي التي زادت عن مائة حاجز وبوابة إلكترونية، ناهيك عن وضع كاميرات المراقبة في كل نقطة وداخل الحرم، ثم مضاعفة أعداد المستوطنين في المنطقة والجنود لتأمينهم وتأمين استباحتهم لمنازل الفلسطينيين.