البليط.. عازف موسيقى الكادحين!
الخليل- رايــة: طه أبو حسين-
في بناية قيد الإنشاء، مع صوت "الطورية_المجرفة" التي تعجن الطين في "الأركاز" المخصص لها، بالتزامن مع صوت منادٍ "هات طينة" وآخر "هات بلاط"، تداخلت أصوات المطارق التي تطرق البلاط على الأرض، ثم تلحن بصوت الصاروخ الذي يقص تلك القطع الصغيرة، ليصنع من كل تلك الأصوات موسيقى قد تزعج البعض لكنها دون أدنى شك مسافة راحة الجميع لما تنتجه، ناهيك عن كونها أداة فرح واستقرار اقتصادي لعائلات كثيرة لا سيّما من يعمل بمهنة "التبليط".
البليط عبد الكريم أبو حماد، "32 عاما" من مدينة الخليل، كان كمن يحاول السجود على الأرض دون أن يفعل، تحت ركبتيه قطعة إسفنج، ظهره منحنٍ باتجاه الأرض، وبيمينه مطرقة يعزف بها موسيقى خاصة بطرق البلاطة التي يضع تحتها الطينة ويصفّها بطريقة هندسية دقيقة، ثم يُتمُ عليها بميزان الماء ليتأكد من ميلانها وفق الصورة المطلوبة.
عبد الكريم لم يجد نفسه بالدراسة الجامعية، فتركها والتحق بعمه الذي يعمل بليطًا. "تعلمت البلاط عام 2003، بواقع 3 شهور فقط، فأنا كانت لدي النية بتعلم هذه المهنة، فصنعة البلاط سهلة جدا وحلوة وممتعة لمن يحبها".
"مهنة البلاط كل يوم فيها المستجد، من بلاط وموديلات وأذواق، وفيها ديكورات ورسومات متنوعة يستطيع البليط إستخراجها من فكره الخاص". قال عبد الكريم معرجًا "كل نوع بلاط له طريقة تبليط من ناحية الديكور، فتبليط البلاط العادي يختلف عن الشطرنج أو الباركيت، لكن من يتقن الأساس، يسهل عليه أن ينفذ أي لون جديد، فالبلاط قانون وعليه تخضع كل المعادلات (البلاط وديكوراته) تمامًا كالمعادلات الرياضية والعمليات الحسابية".
لكل مهنة سرّها، وسرّ البلاط أفشى به عبد الكريم "أسرار مهنة البلاط، تعبئة الطينة تحت البلاط بشكل كامل، فبعض الناس تعاني من أن البلاط يخرج رائحة، وهذا إعتقاد خاطئ، فالبلاط لا رائحة له، والخلل أن الطينة تحته غير كافية، فتدخل الماء إليه ثم تخرج الرائحة منه".
"البليط يستطيع أن يبدع ويترك بصمة لنفسه، من خلال خلق وابتكار رسومات وديكورات من البلاط حتى لو كان سادة، فالمهم الفكر والدماغ عالي، والأهم حب الصنعة" قال عبد الكريم.
من السهل تعلم مهنة البلاط، لكن الحرفية لا يصلُ إليها كلّ بليط، وتظهر علامات المعلمانية من دونها عند الأمور الدقيقة كما يقول عبد الكريم "عمل أدراج دائرية ورسومات، يصعب على أي بليط عملها، تحتاج لناس مهرة وحرفية وفيها يظهر الحرفي من دونه، وفيها أجد المتعة الحقيقية".
على مدار 15 عامًا عمل وما زال في مهنة البلاط، مرّ عبد الكريم بمواقف كثيرة غير أن أكثرها فكاهة بالنسبة له "مرة أعطيت عامل أجرته كاملة، وبقي له عشرين شيقل، ولم يقبل الذهاب إلا أن يأخذها في حينها، فلم يغادر إلا عند كتابة شيك بقيمة المبلغ 20 شيقل".
بعيدًا عن النهفات، توقفنا عند محطة الأثار السلبية على من يمتهن حرفة البلاط، فقال عبد الكريم "مرارة العمل خاصة بالشتاء، برد شديد علينا، خاصة الركب، فالبلاطة تكون كما لو كانت بالفريزر، لكن هناك مفهوم بأن البلاط يُسَقِّط الركب، وهذا خاطئ، فالبليط الذي لا يرحم نفسه، 24 ساعة عمل، ولا يضع إسفنجة تحت قدميه، تضرب ركبه، لكن من يريد أن يحافظ على صحته؛ عند شعوره يرتاح قليلًأ وهذا يجنّبه أي ضرر مستقبلي بركبه وظهره".
أما المطبات، فحدّث عنها ولا حرج، غير أن احداها لا تغادر رأس عبد الكريم عندما تعثر ببلاط غير جيّد في إحدى الورش وحاول التاجر رشوته " أخذني التاجر على جنب وقال :زبّط البلاط، ولك إكرامية محترمة. فرفضت وقلت له :إحمل بلاطك".
بينما كان عبد الكريم يضع البلاطة بجانب أختها، سألناه عمّا يستفزه فأجاب "الزبون يريد أصلح وأفضل شيء وأكثر ديكورات بالبلاط، وبأقل الأسعار".