بسبب جبروت الاحتلال
فلسطينيون يعيشون في "كهوف" تحت الأرض
الخليل - أحمد الحلايقة
بصعوبة بالغة تمكنا من الوصول إلى كهف أبو عادل، الرجل السبعيني ذي اللحية الطويلة الكثيفة في منطقة المفقرة جنوب الخليل، وجدناه متكئا على عصاه التي تلازمه في تحدي صعاب الحياة، حيث يجتمع الظلم والقهر والحرمان في مكان واحد، ويعيش معها (13) من أفراد العائلة قسرا، لا رغبة في هذه الحياة البائسة بل هو جبروت الاحتلال الذي أرغمهم عليها.
استقبلنا بابتسامة عريضة، أعطتنا انطباعا عن مدى حاجته لمن يقف إلى جانبه، أشاح بيديه مرحبا خجلا في كهفه المتواضع أو الأقل من ذلك، الذي لا يملك غيره جورا.
افترش الأرض بثيابه الرثة وأجلسنا إلى جواره وعبارات الترحيب تتردد على لسانه، بينما بدا سقف الكهف أسود مغبرا يبعث نوعا من الاشمئزاز تارة والشعور بقسوة العيش تارة أخرى.
أخذ يتحدث بلا تردد عن مأساته وسكان المنطقة من جيرانه المقهورين، بينما عبرت تجاعيد وجهه عن سنين عجاف لم تقنعه أن يتخلى عن أرضه بأي حال من الأحوال، حاله حال (15) عائلة أخرى تحمي المنطقة المنكوبة من مشاريع الاحتلال التهويدية.
استطرد أبو عادل وهو يمسك سيجارته وبلهجة بدوية يصعب فهمها أحيانا "طردنا الصهاينة من أرضنا في عراد بالسبع، ولجأنا الى أريحا ثم جئنا لهذه الأرض التي اشتراها والدي بعشرات الإبل من أهل يطا حتى نسكنها إلى حين عودتنا إلى أرضنا".
نظرت إليه بصوبة، وشعرت بألم كبير يختلج صدره وحنين لوطنه المسلوب منذ كان طفلا، ليروي فصولا عن معاناتهم: بعد أن كنا نملك أرضا شاسعة، قضينا جل أعمارنا في هذه الكهوف تحت الأرض، كل شيء هنا ممنوع، فلا ماء ولا كهرباء ولا مراعي لأغنامنا التي نعتاش من ورائها.
يواصل أبو عادل وعيناه تمسك دموع الرجال: الاحتلال يهدف إلى تهجرينا مرة ثالثة ونحن لا نملك غير الصبر لحماية المنطقة من الاستيطان الذي يحيط بنا من كل جانب، وقد ساومنا مرات كثيرة لبيع أراضينا والخروج منها لمناطق أخرى لكننا رفضنا وسنبقى هنا.
التحق بنا ضيف جديد بينما كانت الشمس تتوسط سماء يوم 25 تشرين الأول عام 2018، رجل متوسط القامة ارتسمت على ملامحه آثار التعب من حياة لا تطاق، يرتدي قميصا وبنطالا لا تشي بمكانة عالية يدعى (أبو باجس) ليروي فصلا آخر من حياة سكان المنطقة :"إحنا ما نملك شي غير الإرادة ، ورح نظل حماة الأرض مثل ما كنا من عشرات السنين".
واصل أبو باجس وعلامات الانفعال تظهر على وجهه: نعيش حياة غاية في البساطة، ونتعرض بشكل مستمر للاضطهاد والعدوان من المستوطنين وجنود الاحتلال، لطردنا من أرضنا والاستيلاء على مئات الدونمات، ولولا وجودنا لما كانت هذه الأرض، رغم أننا لا نتلقى الدعم من أحد، لكن صمودنا نابع من حقنا وحبنا لأرضنا.
وأردف:"نعيش أياما غاية في الصعوبة بسبب بعدنا عن البلدات المحيطة، إذ نضطر للسير على الأقدام مسافات طويلة لجلب حاجياتنا البسيطة من يطا أو مدينة الخليل التي تبعد عشرات الكيلو مترات عن خربتنا.
وأستطرد أبو باجس :أصعب اللحظات عندنا تتمثل بالحالات الطارئة التي يستوجب نقلها للعلاج، هي أشبه برحلة عذاب لعدم توفر الطرق التي تصل الخرب والتجمعات في المنطقة بالشوارع الرئيسية ومراكز القرى والمدن، وعدم توفر وسائل نقل تقلهم.
وبينما كنا نعيش حجم المعاناة عن كثب، دخلت زوجة رب العائلة على استحياء إلى الطرف الآخر من الكهف وقد بدت عليها علامات الخجل من وجودنا، أعدت لنا كوبا من الشاي بطريقة بدائية استغرق وقتا طويلا.
وبصوت خافت يكاد لا يسمع رددت "حسبنا الله على كل ظالم، مين بيقبل هيك عيش، ويا ريت مالصين من المستوطنين والاحتلال، بدهمش نظل في أرضنا بدهم نرحل ".
خرجت بخطوات مسرعة تجاه باب الكهف حاجبة بعض النور المنبعث من الخارج، بينما أصوات صغار يحدثون ضجيجا فوق الأرض، ويرددون كلمات لم نعهد سماعها، تزامن ذلك مع صوت هرم يأمرهم بالرحيل بعيدا مهددا باستخدام عصاه.
خرج ثلاثتنا من الكهف متجهين إلى سطح الأرض وهواجس غريبة تلفني من كل جانب، أسئلة كثيرة ازدحمت في رأسي لم أجد التعبير عنها، صوت ليس بالبعيد ينادينا قرب كهف آخر يبعد بضع أمتار يأمرنا بالاقتراب قائلا"تفضلوا يا جماعه أهلا وسهلا " هو الجار الأقرب لأبي باجس يدعى أبو محمد.
سرد لنا فصولا أخرى وهو يتنقل من مكان لآخر للتعبير بحرقة عن الواقع الأليم "احنا بنموت في الشتا من البرد، شو بدنا نسوي، فش حدا سائل، وين بدنا نروح ".
أسهب مطولا في حديثة الذي لم تتسع له بضع ساعات قضيناها بصحبتهم، بينما كانت الشمس تتراءى خلف الجبل وتقترب من الغوص في البحر، وبدأ الظلام يتسلل الى حيث نقف، صافحتهم مستأذنا بالرحيل ونظرات أطفالهم لا تكاد تفارقني.
ناداني رجل طاعن في السن قائلا:"دير بالك من المستوطنين في طريقك هذول ناس ما الهم أمان". كلماته جعلت من المشهد أكثر قتامة وفتحت بابا آخر من أبواب حياة أجمل ما فيها مر.
انطلقت نحو سيارتي البعيدة ومازالت تلك المشاهد محفورة في ذاكرتي، تذكرت حينها عشرات التجمعات البدوية في الخليل والخان الأحمر وغيرها، والتي لا تقل معاناتهم عن هؤلاء، بينما صورة هدم الاحتلال لمنازل الفلسطينيين ماثلة في مخيلتي، كلها اجتمعت لتعبر عن مأساة مشتركة يعيشها حماة الأرض والعرض، متجذرين أمام محتل بات عاجزا أمام صمود لا ينتهي.