خنساء فلسطين
محمد احمد فرج
في مخيم الامعري في مدينة رام الله، التقيت بالستينية الحاجة ام ناصر حميد، ولم أكن أدرك حين قررت ان يكتب قلمي قصتها، انني سأجلس مع قامه كبيرة وايقونة فلسطينية جعلتني ارتجف من قوة صبرها وايمانها، وجعلت أحيانا من دموعي تتساقط خفية حزنا والما بما حل بها هي وابناؤها الخمسة.
تجلس ام ناصر على كرسي في ساحة البيت، وتسند رأسها المثقل بالهموم على يدها، هذا هو حالها منذ ان استشهد ابنها عبد المنعم والذي تم اغتياله عام 1994 واعتقال ابنها البكر ناصر أبو حميد الذي يقضي حكما بالسجن المؤبد سبع مرات بتهمة المسؤولية عن مقتل سبعة إسرائيليين في الانتفاضة الثانية، وكذلك نصر المحكوم بالسجن المؤبد خمس مرات، وشريف المحكوم بالمؤبد أربع مرات، ومحمد المحكوم بالمؤبد مرتين، وإسلام والذي تم اعتقاله قبل عدة أشهر بتهمة قتل جندي إسرائيلي ولم تتم محاكمته حتى هذه اللحظة.
رفعت راسها بشموخ، ورأيت في قسمات وجهها شبابا قد عاد عند سؤالي لها عن أبنائها وموقفها من الاعمال التي قاموا بها، فردت سريعا دون انهاء سؤالي، " انا فخورة جدا بما قاموا به، ما بتردد لو عندي ألف ولد انى اقدمهم لفلسطين وقضيتها، واولادي مش أغلي من الناس اللي بالأسر او اللي استشهدوا “.
تعيش ام ناصر وحيدة في بيتها، ومع تقدم العمر والزمن يزداد انحناء ظهرها وينخفض صوتها ويزداد حنينها لأبنائها، وقد حرمها الاحتلال من زيارتهم، وسلب منها اهم الحقوق الإنسانية مخالفا في ذلك كافة الأعراف والقوانين الدولية، حيث قالت بحرقة انها تشتاق ان تعانق أبنائها او ترى او تسمع صوتهم.
لا رفيق ولا مؤنس لام ناصر الا الحزن الذي يزداد يوما بعد يوم، لتقول لي "هذا حال الأم الفلسطينية والتي لا يخلو بيتها من وجود أسير أو شهيد أو جريح أو مغترب، لكن المصيبة العظمى تكمن في أن جميع أبنائي في السجون بحجج أمنية وبقضايا خلقها الاحتلال ومنها قتل إسرائيليين أو المساهمة في القتل، حتى نسيت العائلة بأكملها معنى الفرح وعمت حالة الهدوء والركود في جميع تفاصيل المنزل”.
وتعتبر قصة ام ناصر من أبرز قصص النضال الفلسطينية في العقود الثلاثة الماضية وتعتبر واحدة من النساء الفلسطينيات اللواتي شكلّت حياتهن تجارب رائعة ، وسجلن في غمارها مواقف لافتة ، وقدمن صوراً نادرة في الصمود والتحدي والصبر و التحمل ، فاستحقت أن تلقب بـ خنساء فلسطين فقد بدأت مواجهة عائلتها للاحتلال منذ نهاية الثمانينيات، فتوالت اعتقالات أبنائها حتى وصل اعتقالهم اليوم دفعة واحدة لتبقى تعيش على أمل نصر يحرر أبنائها من سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من خمسة عشر عاما، فصار حلمها الوحيد أنْ تراهم مجتمعين على مائدة.
ولم تتوقف قصة ام ناصر هنا، بل ان قرار الاحتلال الأخير بهدم منزلها قد جعل قلب ام ناصر يعتصر الما على البيت الذي ربت أبنائها فيه، هذا البيت الذي تعتبر ام ناصر كل زاوية فيه ذكرى تؤنس وحدتها، فهي ترتب غرفة أبنائها كل يوم تنظر قدوم أحدهم واليوم بقرار ظالم سوف تحطم الاحلام والذكريات تحت الأنقاض.
ولحقد الاحتلال الكبير على هذه العائلة المناضلة فقد أعلن وزير الحرب "الإسرائيلي" أفيغدور ليبرمان عن قرار هدم منزل عائلة "أبو حميد" في مخيم الأمعري برام الله، والمكون من 4 طوابق، وذلك على خلفية مقتل جندي من جيشه، قبل أشهرٍ، بواسطة "حجر بلوك".
وخلال جلوسي مع ام ناصر رأيت دموعها بدأت تنهمر عند حديثي معها عن قرار الهدم انزلت عيني عنها للحظات خجلا من هذه المعجزة الإنسانية وهذه الصابرة، ثم رفعت رأسي لأرى وجهها قد امتلأ دموع، لتقول لي "هاي الدموع مش دموع خوف ولا دموع حزن على البيت، هاي دموع اشتياق لريحة اولادي بس “.
ولم يكن هذا الهدم الأول لمنزل ام ناصر حيث سبق لسلطات الاحتلال أن هدمت منزل أم ناصر عدة مرات سابقا، بعد اتهام ابنائها بقتل جنود إسرائيليين، ليصبح قرار الهدم الأخير قضية رأي عام في الشارع الفلسطيني، حيث أقيمت المظاهرات والاحتجاجات المنددة بهدم المنزل، ونظمت الزيارات الدائمة لمنزل ام ناصر والذي سيهدم سقفه باي لحظة وسيهدم معه أيضا كل شيء جميل لهذه المرأة التي ستبقى وحدها دون أولاد ودون منزل.
كان لقائي مع ام ناصر طويل وفي داخلي يقين انني لو جلست معها لسنين لن امل ولن يجف بحر استلهام الصبر والعطاء والتضحية من عيونها، قلت لها اننا سنلتقي هنا ان شاء الله، ولن يهدم هذا البيت، وسنشرب القهوة على سطح المنزل، فضحكت، واضحكتني كثيرا، ثم رفعت يدي مودعا لها، وادرت ظهري ودموعي لم تتوقف حتى نهاية كتابة قصتي هذه.