كيف تربي طفلك على اتخاذ القرار الصائب في المستقبل
مشهدٌ يتكرر في غالبية البيوت، يقول فيه الطفل: ماما أنا متعب، فتجيب الأم: لا يمكن أن تكون متعباً فالآن قد استيقظت من نومك. يجيب الطفل بصوت منتحب لكني متعب. تردّ الأم: إنك لست متعباً كل ما في الأمر أنك نعسان، دعنا نرتدي ملابسنا!
وفي مشهدٍ آخر، تطلب الأم من طفلها الذي جاءها باكياً لأن عصفوره قد مات بعدم البكاء، وأنها ستشتري له عصفوراً آخر، وتذكره بأن عليه ألاّ يبالغ في حزنه.
يفسّر كتاب the whole brain child [1] سبب تحكم الانفعالات العاطفية بأطفالنا، إذ يعود ذلك لسيطرة الشق الأيمن من الدماغ الخاص بالمشاعر والعواطف والذكريات بشكل أكبر من الشق الأيسر المتعلّق بالمنطق والحسابات والتحليل وأخذ القرارات، خاصة في مراحل الطفولة. وهذا ربما يفسر لماذا يصاب الأطفال بنوبات من البكاء والغضب، تجعلهم غير قادرين للتعبير كلامياً عن عواطفهم والسيطرة عليها والتحكم بها[2].
يتابع الكتاب؛ في هذه المرحلة، من الضروري أن يقوم الوالدان بمساعدة الطفل وتعليمه على الربط بين جزئي الدماغ بشكل متوازن، حتى يتمكن من قيادة عواطفه بصورة أكثر استقراراً. وعلينا التذكير أنّ مطالبة الطفل باستخدام المنطق بـــ”وقف البكاء” ليست وسيلة فعالة لمساعدته وسط الحالة الانفعالية التي يمرّ بها والتي عبّر عنها الكتاب بوصفها بــ “تسونامي عاطفية”[3]. بدلاً من ذلك، لا بد من تقديم التعاطف مع الطفل، والاعتراف بمشاعر الضيق والخوف والإحباط التي يمّر بها في طريقة لإدارة نوباته الانفعالية. إنّ الرفض الدائم والمستمر لمشاعر الأطفال في المواقف المتعددة، يؤدي إلى تشويشهم وشعورهم بالسخط، ويعوّدهم على تجاهل مشاعرهم وعدم الثقة بها.
فضلاً عن عدم الاعتراف بمشاعرهم، يتصرف كثير من الآباء وفق مبدأ “توحيد العواطف” حيال تعاملهم مع مشاعر أطفالهم؛ فإذا شعر الطفل مثلاً بالحرّ فليس مسموحاً له أن يخلع معطفه إن كانت الأم تشعر بالبرودة، وإذا استمتعت الأم بحضور حفلة عيد الميلاد؛ يبدو وصفها بــ”المملّة” من الطفل تعبيراً غير لائق من وجهة نظر الأم، وبهذا نتجاهل بأن كل من الآباء والأطفال هم شخصيات مستقلة، لكل مشاعره المختلفة؛ وكلٌّ يعبر بما يشعر به حقاً[4].
لماذا علينا أن نقرّ بمشاعر أطفالنا؟
“عندما نعترف بمشاعر الطفل نسدي له خدمة عظيمة، إننا نضعه أمام واقعة الداخلي، وبهذا يكون قادراً على استجماع قوته ليبدأ الكفاح”
بدلاً من أن نمنع أطفالنا من التعبير عن شعورهم حيال أمر ما؛ لا بد أن ننميّ لديهم ” الذكاء العاطفي” [5]، أي أن نجعلهم قادرين على فهم عواطفهم والتعبير عنها، من ثم التحكم بها. يكون ذلك من خلال تدريبهم على خلق وعيّ ذاتي اتجاه مشاعرهم بفتح الحوارات والنقاشات معهم عن أسباب هذه المشاعر ثم محاولة توجيهها. يساعد الذكاء العاطفي على التطور الوجداني السليم للطفل، كما ويساعده على تجاوز متطلبات المراحل العمرية بشكل سليم؛ فالطفل الذكيّ عاطفياً يكون أكثر قدرةً على مواجهة المواقف الاجتماعية التي سيتعرض لها مستقبلاً، خاصة عندما يواجه الطفل ظروفاً انتقالية كالبدء بالذهاب للمدرسة وتكوين صداقات مع الآخرين[6].
إنّ معاقبة الطفل فيما ما لو حاول التعبير عن مشاعره، سيحرمه من التعبير عمّا يشعر به، كما سيمنعنا كآباء من معرفة سبب بعض المشاعر التي تجتاح أطفالنا؛ ويؤدي إلى نشوء حاجز بيننا وبينهم. أما محاورتهم وتقديم المساعدة لهم من خلال تشجيعهم على الحديث وبناء الثقة لديهم، يجنبهم من الوصول إلى حالة من الكبت يصعب التخلص منها بسهولة[7].
إضافة إلى أنّ قلة خبرتنا في التعامل مع مشاعر أطفالنا، تؤثر على شعورنا نحن كآباء أيضاً؛ فتقلل من مدى رضانا عن كفاءتنا كآباء، مما يؤدي إلى ظهور الخلافات بيننا وببين أبنائنا. فكل منا يريد تنفيذ إرادته الخاصة، وفي النهاية يفوز الآباء بقولهم “لقد قلت ذلك ولن أغيّر رأيي”[8].
في هذا الصدد؛ أشارت بعض الدراسات، أن الأطفال الذين يدركون مشاعرهم ويعرفون كيفية التعبير عنها بطريقة مقبولة اجتماعياً، يتمتعون بأداء أفضل في المدرسة، ويستطيعون تكوين علاقات اجتماعية أفضل، وهم أكثر سيطرة على ما يحدث لهم، وأقل عرضة لمشاكل السلوك. كما وقد أظهرت دراسات “غوتمان”[9] عن الذكاء العاطفي، أن الأطفال الذين يتعرفون على عواطفهم أكثر قدرة على اعتماد استراتيجيات للقضاء على المحفزات المزعجة. على سبيل المثال؛ الأطفال الأذكياء عاطفياً هم أكثر قدرة ومعرفة بالطرق التي يتجنبون بها الأحداث غير السارة، ويلجأون عادةً للمشاركة في الأنشطة التي تساعدهم على تهدئة مشاعرهم[10].
الإصغاء وتجنّب النصح.. وسائل فعّالة لفهم مشاعر الطفل
“إن قبول مشاعر الطفل لا يعني أن نسمح له أن يتصرف بالطريقة التي تحلو له، ولكن تبيّن التجارب أنه حين نقبل مشاعر أطفالنا يكونوا مستعدين لقبول الحدود التي نضعها لهم”
يعتبر الإصغاء للأطفال أثناء حديثهم إحدى الطرق التي تساعد على فهم مشاعرهم، بشرط أن يكون بانتباه كامل، أي ليس على الأب أن يشاهد التلفاز والطفل يشكو إليه، فسيكون من السهل على الطفل أن يتكلم عن مشكلته لأهله عندما يعطونه آذانًا صاغية، فكل ما يريده في حقيقة الأمر “صمت متعاطف”، فلا تعنيه أن يحصل على إجابة[11].
كما يعد إظهار الاعتراف بمشاعر الأطفال مع كلمات مناسبة مثل: نعم، حسنًا، لقد فهمت؛ وسيلة أخرى لفهم مشاعرهم، مع ضرورة الحرص على تجنب إعطاء الطفل حلولاً، لأن ذلك لن يساعده في تعلم مهارة حل مشاكله في المستقبل[12].
في كثير من الأحيان، يتجّه الآباء لتوجيه اللّوم والنصائح لأطفالهم مع طرح الأسئلة ومحاولة استجوابه، فالطفل حينها يكون غير قادر على التفكير، ويصبح السؤال عن شعوره أو ما حصل معه غير منطقي، ويغدو الإلحاح بالتخلص من شعوره أمراً مزعجاً. لهذا يستغرب الأهل أنه حتى لو عاملوا أطفالهم بلطف، يرونهم يزدادون غضبًا وقد يكون هذا بسبب الإلحاح على الطفل للتخلص من الشعور المزعج الذي ينتابه[13].
إلى جانب ذلك، يجب منح الطفل ما يجنح إليه خياله من أمنيات، فمجرّد مشاهدة الطفل لرغبتك بفهمه ومساعدته للتحدث وتحقيق ما يشعر به حتى لو بالخيال، يجعله يتحمّل عدم حصوله على الشيء الذي يريده. فقد جرت العادة عندما لا يحصل الطفل على الشيء الذي يريده تشرح له أمه بأسلوب منطقي، وكلما كان الشرح أعمق كان الرفض أعمق. لذا يكون استخدام الخيال وسيلة فعّالة لفهم مشاعر الطفل[14].
مثال؛ الطفل: أريد كعكة الفراولة، فتجيب الأم لا يوجد عندنا في البيت، ياليتني لو أملك عصا سحرية لأحضر لك كعكة كبيرة.
كيف نساعد الطفل على فهم مشاعره والسيطرة عليها؟
“عندما نعلّم الأطفال تحديد وإدارة عواطفهم نعطيهم أدوات هامة للتنقل في الحياة. كما نعلّمهم طرق فعالة للتسامح مع الحالات التي لا يمكن تغييرها” [15]
غالباً ما يجهل الأطفال سبب المشاعر المختلطة التي يشعرون بها، وفي أحيان كثيرة يقاومون قدرتهم على التكلم لأنهم يخشون أن تكون أسبابهم التي يذكرونها غير منطقية أو كافية من وجهة نظر الكبار إذ يقولون؛ أمن أجل هذا أنت تبكي؟
الخطوة الأولى في تعليم الأطفال للتعرف على مشاعرهم هو تعليمهم عن تلك المشاعر من خلال “تسميتها”، فمن السائد اعتقاد الأهل أنهم إذا قاموا بإعطاء اسم للشعور سوف يزيد الطين بلّة ويجعل الأمور أسوأ، والحقيقة أن الأمر يختلف تمامًا، فالطفل الذي يسمع كلمات تعبر عمّا يعنيه ودار في نفسه فإنه يشعر براحة أكبر[16].
يرى الباحثون في الذكاء العاطفي، أنه يمكن تعليم الطفل عن العواطف منذ وقت مبكر أي في سن الثالثة من العمر. عندما نقوم بوضع مشاعر أطفالنا في كلمات “يبدو أنك حزين” “أنا أعلم أنك مستاء” نحن لا نعلمهم فقط تحديد مشاعرهم، بل نساعدهم على وضع مشاعرهم في كلمات[17].
كما تعد “الكتب” وسيلة فعّالة، من خلال قراءة القصص التي تساعد الطفل على تعلم اللغة الصحيحة لتحديد مشاعره وفهمها بشكل مناسب، وتعلم الكلمات لوصفها أيضاً[18].
من المهم أن نشرح لأطفالنا أن عواطفنا تبدو مثل أمواج البحر فقد ترتفع وتنخفض، فليس بالضرورة أن نشعر بالسعادة طوال الوقت، كما لا يجب نشعر بالحزن في كل وقت.
ونضيف أيضاً، أنّ الرسم يعد وسيلة فعّالة تساعد الطفل لاستكشاف عواطفه بما يرسمه على الورق، وفي هذا يمكن استخدام أسلوب “العجلة” لمساعدة الطفل على ذلك، بأن يقوم برسم صورة أو كتابة ما يعبر عن الشعور الموجود في كل جزء من العجلة[19].
وحول أهم الوسائل التي تمكن الطفل من السيطرة والتحكم بمشاعره، التذكير الدائم أنه ليس من المقبول أن يؤذي الآخرين، ومن المهم وضع مبادئ توجيهية واضحة بشأن ما هو مقبول وما هو غير مقبول[20].
يجب أن نعود الطفل على طلب المساعدة عندما لا يشعر أنه قادر على حل مشكلة ما، وبهذا يتعلم السيطرة على مشاعره من خلال إيجاد الحلول للمشاكل المتعلقة بالمواقف الاجتماعية[21].
كذلك، يمكن للاطفال استخدام بعض الاستراتيجيات للمساعدة على حلّ العواطف العالقة من خلال تشتيت الانتباه عن الموقف، وهذا لا يكون بعزل الطفل وتهميشه بل بمنحه مساحة من التواصل والحديث، أو الذهاب إليه ودعمه للقيام ببعض الأمور، كالذهاب خارجاً وركل كرة، أو ممارسة نشاط بدني، أو التأمل والاستماع للموسيقى، أو كتابة رسالة أو قصة، أو قراءة كتاب، أو التحدث لشخص ما، أو العناق الجسدي[22].
من الهامّ أن نكون كآباء نموذجاً للإدارة الذاتية العاطفية وذلك بمقاومة “نوبات الغضب” فنتذكر أن أطفالنا مرآةً لنا، من خلالنا يتعلمون تنظيم عواطفهم.