كلية للبيع...وبنصف السعر!

2016-09-06 08:35:00

رام الله- رايـة:

حسين ابو عواد-

لا شيء يجعلنا أكثر صمتا كخيبة الأمل، وخيبة الأمل هي كل ما لمحت في عيني هاني المطفأتين على الرغم من أنه لم يجاوز الأربعين بعد. كان يلقي بجسده المتعب على قارعة طريق فرعي في احدى قرى جنين، يحرس بسطة متواضعة لبيع الاكسسوارات الرخيصة..لكنه في ذلك اليوم بالذات كان يعرض شيئا آخر للبيع..كان يعرض كليته..وبنصف السعر.

صوته المتهدج وهو يصيح للفت أنظار المارة إلى بسطته وشى بثقل حمله وعظم مصيبته "بكل للبيع..كلسات للبيع.. تشتري عمي" كان يصرخ فلا يكاد صوته يسمع إلى أن صرخ "كلية للبيع".. كان الناس ينظرون إليه باستهجان وكأنه مجذوم أو فاقد لعقله.

"طيب شو أساوي يعني؟ أسرق ؟أنهب؟" صرخ هاني بسؤاله الاستنكاري وكأنه يخاطب السماء ثم استدرك "ولما أنسجن شو بدو يصير بالأولاد، والله ليموتوا زي الاثنين اللي قبلهم وما يلاقوا حد يطلع فيهم" كان يسأل نفسه ويجيب بطريقة تدمي القلب. وكان هاني قد فقد اثنين من أبنائه بسبب عيب خلقي ولدوا فيه، ولم يتمكن من علاجهم بسبب فقره، الأمر الذي أثقل صدره وزاد من خيبة أمله في نفسه.

"الحاجة خلتني أفكر بجدية بهالموضوع، وأنا مازلت مصرا على بيع كليتي لأي مشتري ومش طالب كثير"،  قال هاني مشيراً إلى أن زوجته كانت قد منعته من قبل وبالقوة من المضي قدما بالموضوع، ولكن كلما نظر لعيون اطفاله وفقرهم تعود الفكرة من جديد.

 

يعيش هاني مع زوجته وأطفاله الثلاثة في منزل من الطوب لا تتجاوز مساحته ٣٠ متراً مربعاً يخجل من أن يسميه بيتا ويصر على وصفه بـ"الخشة" لكن حتى هذه الخشة "بدها أيجار وفواتير كهربا ومي من وين بدي أجيب أنا"  قال هاني الذي يتلقى مساعدة مالية من وزارة التنمية الاجتماعية لا تتجاوز 750 شيكل كل ثلاث شهور، "والله صرت أستحي من نظرات اولادي، أطلع قبل يصحوا وأرجع وهم نايمين عشان ما يطلبوش مني إشي وأنا جيوبي فاضية" استطرد هاني وقد اختنقت في حلقه الكلمات.

الشؤون لا تكفي

حملنا تسؤلات هاني وهمه إلى وزارة التنمية الاجتماعية علنا نقلص علامات الاستفهام في حياته المرهقة، وتحديدا إلى نائب مدير مكافحة الفقر خالد البرغوثى الذي قال لـ"راية"، بأن المساعدات التي يتم تحويلها للاسر الاكثر فقرا في فلسطين تقدم عبر آليتين رئيستين: الاولى تعتمد على عملية محوسبة تحدد قيمية المساعدات بعد احتساب قيمة الدخل الاجمالي للعائلة، والثانية تتم من خلال عملية مسح اجتماعي تقوم بها طواقم الوزارة من خلال زيارات ميدانية للعائلة المحتاجة وتحدد قيمة المساعدات على اثرها.

وتتلقى 115 ألف أسرة مسجلة لدى الوزارة بالضفة الغربية وقطاع غزة، مساعدات مالية، وعينية كالطرود الغذائية، والتأمين الصحي وهي في نظر البرغوثي "قليلة وغير كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية لكل عائلة" يعترف البرغوثي لكنه في الوقت نفسه يبرر للوزارة ذلك بـ"محدودية القدرات المالية للوزارة التي تعتمد بشكل أساسي على المساعدات النقدية المقدمة من الدول المانحة" والتي لا تكفي للحد من أزمة الفقر التي تنخر عظام ونسيج المجتمع الفلسطيني على حد وصفه.

قصير هو الوقت لبكاء متقن على فقدان الولد أو جنون مجنون كبيع كلية من أجل إيجار بيت أو فاتورة كهرباء، لتزيد تساؤلات هاني واحدا: عندما يعجز الوطن عن منحنا أكثر من صدوع ضيقة لدفن أبنائنا …كيف نبقى؟.