في عيد الميلاد المجيد تصبح الغربة اختبارا نفسيا للاجئ في النرويج

2025-12-25 15:52:22

عندما يحل عيد الميلاد المجيد في النرويج لا يمر على اللاجئ كما يمر على الآخرين لا يأتي محملا فقط بالأضواء والزينة بل يأتي محملا بأسئلة ثقيلة وبشعور داخلي يصعب شرحه في هذه الأيام لا يشعر اللاجئ أنه يحتفل بل يشعر أنه يواجه نفسه وجها لوجه.

اللاجئ الذي يعيش وحيدا في النرويج لا يعاني من غياب الناس فقط بل من غياب المعنى المؤقت الذي كانت تمنحه العائلة في مثل هذه المناسبات فجأة تتوقف الحياة الاجتماعية من حوله الأبواب تغلق الشوارع تهدأ المجتمع ينسحب إلى داخله ويبقى هو في مكانه خارج هذا المشهد كأن الزمن لا يتحرك بالطريقة نفسها.

هنا بالذات تظهر الحقيقة التي لا يقولها كثيرون بصراحة من يتخيل أوروبا حضنا مفتوحا طوال الوقت يكتشف في عيد الميلاد المجيد أن المجتمع يمكن أن يصبح مغلقا على نفسه بطريقة صادمة ليس لأن الناس قساة بل لأن هذه المناسبة في النرويج بالذات عيد عائلي عميق الجذور الجميع يعود إلى دائرته الأولى عائلته بيته ذكريات المدرسة منذ الطفولة أصدقاء الحي وطاولة تعرف أسماء الجالسين عليها منذ سنوات طويلة لا تتوقع أن يكون لك مكان تلقائي على هذه الطاولة في كثير من الحالات لن تكون موجودا على طاولة عيد الميلاد إلا إذا صرت جزءا من عائلة أو علاقة عميقة جدا أو تمت دعوتك بوعي خاص واستثناء إنساني نادر.

ولهذا يصبح عيد الميلاد المجيد أكثر من مناسبة يصبح درسا نفسيا في معنى الانتماء فجأة يدرك اللاجئ أن الاندماج لا يعني أن كل الأبواب ستفتح ولا أن الدفء الاجتماعي سيتوفر تلقائيا ولا أن المجتمع سيعوض تلقائيا ما خسرته من بيتك القديم قد تحصل على إقامة على عمل على لغة تتطور وعلى نظام يحترم حقوقك لكنك قد تصل إلى هذا العيد لتكتشف أن هناك شيئا لا تمنحه الأوراق ولا تمنحه الوظيفة أن يشعر قلبك أنه في مكانه.

في هذه اللحظة تبدأ المعركة النفسية ليس لأنها أيام فراغ بل لأنها أيام مواجهة مواجهة مع الذاكرة مع الماضي مع فكرة أين وصلت اللاجئ لا يفتقد فقط أهله بل يفتقد النسخة التي كان عليها حين كان محاطا بهم يفتقد الشعور بأن وجوده بحد ذاته له معنى دون الحاجة إلى تبرير ويكتشف أن الغربة ليست مجرد مكان جديد بل هوية جديدة تصنع تحت ضغط وأحيانا تحت صمت طويل.

وقبل أن يصل اللاجئ إلى هذه المرحلة في النرويج هناك قصة أكبر لا يحب البعض أن يسمعها قصة الذين كانوا على استعداد لقطع البحار والمحيطات كي يصلوا إلى أوروبا بأي شكل من الأشكال هناك من ركب قاربا لا يضمن نهايته ومن سار في طرقات باردة ومن دفع كل ما يملك لسمسار يبيع الوهم فقط كي يضع قدمه هنا هؤلاء لم يأتوا لأنهم يبحثون

عن مغامرة بل لأنهم كانوا يهربون من موت قريب حرب اضطهاد فقر ساحق أو انهيار حياة كاملة وعندما يصل أحدهم بعد كل هذا يتصور أحيانا أن النجاة ستتحول تلقائيا إلى سلام لكن عيد الميلاد المجيد يذكره بحقيقة قاسية أن الوصول ليس نهاية الرحلة بل بداية اختبار آخر أكثر هدوءا وأشد قسوة اختبار النفس.

في عيد الميلاد المجيد يشعر اللاجئ أن الغربة ليست مكانا بل حالة داخلية يعيش في بلد آمن منظم يحترم الإنسان لكنه لا يستطيع أن يمنحه الشعور بالانتماء العاطفي لا يستطيع أن يعوض دفء بيت كان مفتوحا دائما أو طاولة كانت تجمع الجميع دون تخطيط مسبق هنا كل شيء يحتاج إلى موعد حتى المشاعر حتى الزيارات العفوية التي كانت في الشرق جزءا من الحياة اليومية تتحول هنا إلى ترتيبات قد تلغى لأن لكل بيت برنامجه وخصوصيته في العيد.

اللاجئ الذي يعيش وحده يطرح أسئلة لا يطرحها في الأيام العادية لماذا أشعر بهذا الثقل الآن لماذا يعود الحنين بهذه القسوة هل هذا ضعف أم أنه التعب المتراكم الذي لم يجد وقتا للظهور هذه الأسئلة لا تقال بصوت عال لكنها تدور في الرأس لساعات طويلة خصوصا في ليالي العيد الهادئة حين تكون النوافذ مضيئة من بعيد بينما غرفته صامتة وكأنها خارج الصورة.

وهنا تبرز نقطة أساسية يجب أن يفكر فيها كل إنسان قبل أن يقرر الهجرة إذا كنت من النوع الذي عاش الأعياد في الشرق الأوسط كجزء من هويته العائلية عيد الفطر عيد الأضحى عزائم لا تنتهي بيت ممتلئ بأصوات الأقارب رائحة الطعام المصافحة والضحك والفرح الذي لا يحتاج سببا فعليك أن تعرف أن هذا الشكل من العيد لن تجده هنا بنفس الصورة ليس لأن العيد غير موجود بل لأن آليته الاجتماعية مختلفة تماما في الشرق العيد يحضر إليك كشيء تلقائي هنا إن لم تصنعه أنت لن يأتي وإن لم تبن شبكة اجتماعية قوية وطويلة النفس فقد تمر مناسبات كاملة دون أن يشعر أحد بغيابك.

وهنا يظهر السؤال الذي لا يجب الهروب منه هل أنت قادر على إزالة هذه الخاصية من حياتك هل تستطيع أن تتقبل أن العيد الذي كان يوما اجتماعا طبيعيا سيصبح في الغربة حاجة نفسية غير مضمونة هل أنت قادر أن تتحمل أنك قد تملك كل أسباب الاستقرار الخارجي لكنك تفقد لحظات الدفء التي كانت تمنح روحك معنى هل أنت قادر أن تعيش سنوات وأنت تتعلم كيف تخلق العائلة بشكل جديد أصدقاء قليلون لكن حقيقيون علاقات تبنى ببطء ودائرة صغيرة جدا تعوض جزءا من الكل الذي فقدته.

كثيرون ينظرون إلى اللاجئ على أنه شخص استقر لمجرد أنه حصل على إقامة أو عمل لكنهم لا يرون الجانب غير المرئي من الاستقرار الاستقرار النفسي اللاجئ يعمل يلتزم يحاول الاندماج لكنه في هذه الأيام يشعر أنه يدفع ثمنا داخليا لا يعترف به أحد يعمل وهو يحمل قلبا مثقلا لا يشكو لأن الشكوى لا تغير شيئا وربما لأنه يخجل أن يقول أنا بخير على الورق لكني متعب من الداخل.

الوحدة هنا ليست اختيارا دائما هي نتيجة طبيعية لاقتلاع الإنسان من جذوره اللاجئ لا يعيش فقط بعيدا عن عائلته بل بعيدا عن السياق الذي كان يفهمه دون شرح في بلده كان يعرف كيف يحزن وكيف يفرح كيف يعزى وكيف يهنأ كيف يدخل بيتا دون موعد وكيف تصبح المناسبة سببا كي يلتقي الناس هنا يتعلم كيف يخفي مشاعره لأن المجتمع لا ينتظرها ولأن الإيقاع العام لا يترك مساحة سهلة للحزن القادم من مكان آخر.

ومع ذلك لا ينهار يحاول أن يصنع توازنه الخاص يخلق طقوسا صغيرة كي لا يفقد نفسه وجبة تشبه طعم البيت موسيقى بلغته مكالمة قصيرة مع شخص بعيد أو حتى صمت طويل الصمت أحيانا يكون أقل إيلاما من محاولة الشرح وبعض اللاجئين يختارون في هذه الأيام أن يعملوا أكثر لا لأنهم يحبون العمل في العيد بل لأن العمل يمنحهم إحساسا مؤقتا بالانشغال كي لا يبتلعهم فراغ المناسبة.

لكن الحقيقة الأعمق تبقى واضحة عيد الميلاد المجيد يضع اللاجئ أمام معادلة صعبة النجاة لا تعني دائما السلام الداخلي والقوة لا تعني غياب الحنين بل القدرة على حمله والاستمرار اللاجئ لا يريد شفقة بل فهما لا يريد أن ينظر إليه كرقم أو حالة بل كإنسان يعيش تجربة نفسية معقدة ويحتاج أحيانا فقط إلى من يقول له أنا أراك حتى لو لم تكن على تلك الطاولة.

ربما علينا أن ننظر إلى عيد الميلاد المجيد من زاوية مختلفة لا كعيد للجميع بالطريقة نفسها بل كمرآة تكشف هشاشة البعض أن نفهم أن هناك من يمر بهذه الأيام وهو في صراع داخلي حقيقي يحاول فقط أن يبقى متماسكا وأن هناك أيضا

من يفكر في الهجرة الآن من مكان بعيد يتخيل أن الوصول إلى أوروبا هو نهاية الألم بينما الحقيقة أن الألم يتغير شكله فقط.

عيد الميلاد المجيد يمر لكن أثره يبقى في داخل اللاجئ أكثر من غيره يبقى كسؤال مفتوح وربما كتحذير هادئ لمن لم يصل بعد. هل ستتحول الغربة يوما إلى مكان أشعر فيه أنني لست وحدي؟ أم أن أقصى ما يمكنني فعله هو أن أتعلم كيف أعيش معها دون أن أفقد نفسي؟

وفي النهاية قد يكون أصعب ما في الغربة ليس أن تفقد بلدك بل أن تكتشف أن بعض الأشياء التي كانت تمنحك معنى الحياة العائلة في الأعياد الدفء الاجتماعي العفوي الشعور بأن لك مكانا طبيعيا بين الناس تحتاج هنا إلى سنوات كي تبنى من جديد وقد لا تعود أبدا بالشكل نفسه لذلك من يفكر أن يصبح لاجئا في بلد غير بلده عليه أن يهيئ نفسه لهذه الحقيقة قبل أي شيء الغربة لها ثمن قاس والثمن الأكبر ليس ماديا بل نفسيا.