وهم التحرّر وإعادة هندسة الوعي: فلسطين في ميزان غرامشي

2025-12-25 11:26:30

في فلسطين، لا ينتهي الاحتلال حين يختفي حضوره في الشارع، ولا حين تُدار الحياة اليومية بأقل احتكاك مباشر. الاحتلال لا يُقاس بعدد الجنود وقدراته التدميريةً، بل بقدرته على التحكّم بالقرار، وبالأرض، وبالمستقبل. ومع ذلك، يسود اليوم خطاب يوحي بأننا نعيش شكلًا من أشكال التحرّر أو أننا في طريقٍ طبيعي إليه. هذا الخطاب هو جوهر وهم التحرّر.

لفهم هذا الوهم، لا يكفي النظر إلى الوقائع الميدانية، بل يجب التوقّف عند ما يجري في مستوى الوعي. هنا تصبح أفكار المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي أداة تفسير واضحة. غرامشي رأى أن السيطرة لا تقوم فقط على القوّة، بل على الهيمنة: أي القدرة على جعل الواقع المفروض يبدو طبيعيًا، أو عقلانيًا، أو بلا بديل.

في الحالة الفلسطينية، تعمل هذه الهيمنة حين يُعاد تعريف المفاهيم الأساسية.

فالحرية لم تعد تعني إنهاء الاحتلال، بل تحسين شروط الحياة تحته.

والسيادة لم تعد تعني امتلاك القرار، بل إدارة شؤون يومية محدودة.

أما الواقعية السياسية، فصارت تعني التكيّف مع القيد بدل السعي إلى كسره.

بهذا المعنى، لا يُلغى الاحتلال، بل يُعاد تقديمه واعادة انتاجه بصيغة “واقع معقّد”. ويُطلب من الفلسطيني أن يقبل هذا الواقع، لا بوصفه ظلمًا مؤقتًا، بل بوصفه أقصى ما هو ممكن. هنا تتحقّق الهيمنة كما وصفها غرامشي: حين يقبل الناس حدودهم وكأنها خيارهم الحر.

هذه إعادة هندسة للوعي، لا تحدث بالقوة المباشرة فقط، بل عبر الخطاب. يُقال إن الغضب غير مجدٍ، وإن المقاومة مكلفة، وإن الاستقرار أولوية. ومع الوقت، يتحوّل هذا الخطاب إلى قناعة عامة، ويصبح السؤال عن التحرّر الكامل سؤالًا غير عملي، أو مؤجَّلًا إلى زمن غير معلوم.

لكن الواقع لا يتغيّر مهما تغيّرت لغته. الاحتلال ما زال يتحكّم بالأرض والحدود، بالماء والسماء، بالاقتصاد وحركة الناس. ما زال يقرّر من يبني ومن يُهدم، من يسافر ومن يُمنع، ومن يعيش بأمان ومن يُحاصَر. وأي حديث عن تحرّر لا ينطلق من هذه الحقيقة هو حديث عن إدارة القيد، لا عن إنهائه.

غرامشي كان يرى أن كسر الهيمنة يبدأ من الوعي، ومن استعادة اللغة، ومن رفض تحويل الواقع المفروض إلى قدر. وهذا ما تحتاجه اليوم: وضوح في التسمية، ورفض لوهم التحرّر الذي يُخفّف من حدّة الاحتلال في الخطاب، لكنه يرسّخه في الواقع.

التحرّر الحقيقي لا يكون بتحسين شروط السيطرة، بل بإزالتها. ولا يبدأ بإقناع الناس بأن القيد صار أخفّ، بل بتذكيرهم بأنه ما زال قيدًا. وما لم نكسر وهم التحرّر، ونفكّك هندسة الوعي التي تبرّر التعايش مع الاحتلال، سيبقى الصراع مُدارًا… لا محسومًا،

وتبقى الحرية فكرة مؤجَّلة بدل أن تكون هدفًا واضحًا.