الأوطان إذا تصبح صفقات عقارية
بعد وقف إطلاق النار الذي تمّ إعلانه قبل شهرين، تراجع الاهتمام الإعلامي والسياسي والإنساني بما يجري في غزة وإنْ كان هذا لا يعني أن الحرب قد توقفت أو أن ضراوتها قد ضعفت، وإنما قد أخذت شكلاً مختلفاً. وهي كما يجري في لبنان أيضاً فقد وصلت اختراقات “إسرائيل” للاتفاقيات المعقودة مقداراً لا يُعدّ ولا يُحصى، وهي – “إسرائيل” – لديها دائماً مبرراتها لهذه الخروقات التي يوافقها عليها الغرب والعرب على حدّ سواء، فيما يتآكل الصبر على المستوى التكتيكي والاستراتيجي على حدّ سواء.
ولكن الاهتمام عاد من نافذة المشاريع والاستثمارات العقارية إذ أوردت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن الإدارة الأميركية تعمل الآن على تطوير خطة ريفييرا غزة التي سبق أن تحدّثت عنها سابقاً، وتمّ إطلاق اسم جديد لها وهو مشروع شروق الشمس وهي خطة بها تفاصيل كثيرة وحديث عن تطوّر تكنولوجي فائق، بحيث تبدو غزة وكأنها مدينة من المستقبل، ولكن وبحسب الصحيفة فإن هذه الخطة تحتاج إلى 10 حتى 20 سنة لتنفيذها بسبب حجم الركام والدمار الذي أحدثته الحرب وتُقدّر تكاليف تنفيذ هذا المشروع بـ 112 مليار دولار كحد أدنى.
إلا أن مشروعاً بهذا الحجم وهذه التكلفة المرتفعة ترى الصحيفة ومصادرها أن هناك مسألتين تعرقلانه، المسألة الأولى هي رفض المقاومة في غزة تسليم سلاحها، والثانية هي الجثة الأخيرة التي لم تُعِدْها المقاومة حتى الآن والتي ترفض “إسرائيل” الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق ما لم تتسلّم هذه الجثة الثمينة – الذهبية التي تعرقل مشروعاً تصل تكاليفه إلى 112 مليار دولار.
وإذا كانت خطة ترامب – كوشنر تتحدّث عن غزة وتطوّرها ومسابحها الراقية وحدائقها المعلقة وتكنولوجيتها الفائقة وجمالها الأسطوري القادم إلا أنها لا تجيب على سؤال ماذا عن أهل غزة، وهل الحديث فقط عن الجغرافيا دون الديموغرافيا، وأين سيكون أهل غزة أثناء تنفيذ هذا المشروع الذي سيستغرق من 10 الى 20 سنة؟
هكذا يتمّ التعامل مع الفلسطيني باعتباره شيئاً أو سلعة أو مادة لا حياة فيها، وفي أحسن حالاته باعتباره شعباً زائداً عن الحاجة، وبما أن حرب الإبادة قد أخذت مداها وأزهقت حيوات ما يقارب من 5% من مجموع أهل غزة البالغ مليونين، يجد الضمير الإنساني أن هذا رقم مرعب، ولكنه متواضع ولا يحلّ المشكل عند من يرى أهل فلسطين حمولة زائدة لا بدّ من التخفّف منها، وأن الهجرة الفردية التي تنظمها القنصليات للشباب لدول في شمال أوروبا غير كافية، فلا بدّ من ترحيل جماعيّ والبحث عن مكان لهم، مؤقتاً قد يكون سيناء ولكن لاحقاً يجب أن يكون بعيداً في الصومال أو في مكان أبعد. هذا ما تمّت تجربته في رحلة المجد إلى جنوب أفريقيا وهي الدولة الصديقة التي لا تطلب تأشيرة دخول من حامل جواز السفر الفلسطيني، وكادت الخطة تنجح لولا انتباهة حكومة جنوب أفريقيا التي اتخذت ما يلزم من إجراءات لمنع تكرار ذلك.
يترافق ذلك مع تشكيل مجلس عالمي للسلام والسعي لإدخال قوات دوليّة إلى غزة، وتشكيل إدارة أجنبية تتعاون مع خبراء فلسطينيين في المجال التقني والإداري بعيداً عن السياسة، لا علاقة لها بالأمم المتحدة، مع السعي المحموم للإدارة الأميركية لإلغاء دور وكالة الغوث (الأونروا) لا بل وحلّها وإلحاق أعمالها بمفوضية اللاجئين العليا، وتتم الآن عرقلة أعمالها لا في غزة فحسب وإنما في خارج فلسطين كما في الضفة الغربية، حيث تهدم جرافات الجيش الإسرائيلي المخيمات في شمال الضفة وتعلن أنها لن تقبل ببقائها باعتبارها مخيمات لاجئين وإنما أحياء سكنية.
هذه الخطة ليست الأولى وهي قطعاً لن تكون الأخيرة، ونصيبها في النجاح أمر موضع شك، فنجاح مثل هذه المشاريع أمر غاية في الصعوبة وجُرّب على مدى عقود ولم يُصب نجاحاً، والمقاومة الفلسطينية في غزة لا تزال ترفع الراية برغم ما أصابها من إرهاق وما تعانيه من خذلان، وهي ترى أن تسليم السلاح المطروح هو استسلام ويحقق للعدو ما فشل في تحقيقه طوال سنتي الحرب، وهو أمر لن يكون وهذا ما يأمله من المقاومة أنصارها وأحبتها.