الإصلاح تحت الاختبار: هل نُصلح الأرقام أم نُصلح المسار؟

2025-12-16 14:49:13

لم تعد الدعوة إلى “الإصلاح” في الخطاب الاقتصادي الفلسطيني موضع خلاف من حيث المبدأ، بل تحوّلت إلى لازمة دائمة تُستحضر مع كل أزمة مالية، وغالبًا بوصفها شرطًا أساسيًا لاستمرار الدعم الدولي واستعادة الاستقرار. غير أن السؤال الذي بات أكثر إلحاحًا اليوم لا يتعلق بضرورة الإصلاح، بل بطبيعته الفعلية: هل المطلوب إصلاح الأرقام، أم إصلاح المسار الاقتصادي برمّته؟

في مقاربة المانحين، يتركز الإصلاح عادة على حزمة إجراءات مالية وتقنية، تشمل ضبط العجز، وتحسين الجباية، وترشيد الإنفاق الجاري، والسيطرة على فاتورة الرواتب. ووفق متوسط بيانات الأعوام الخمسة الأخيرة (2019–2024)، تشكّل أموال المقاصة نحو 62–65% من إجمالي الإيرادات العامة، فيما تستحوذ الرواتب والأجور على قرابة 48–52% من الإنفاق الجاري. هذه المؤشرات تُقدَّم غالبًا باعتبارها جوهر المشكلة، ومن ثم تُستخدم لتبرير سياسات تقشفية تُوصَف بالإصلاح، دون التوقف الكافي عند طبيعة هذه الإيرادات نفسها ومدى استقرارها.

فالمقاصة، التي يُفترض أن تكون موردًا سياديًا، تحوّلت عمليًا إلى مصدر عدم يقين دائم. الاقتطاعات والاحتجازات المتكررة جعلت التخطيط المالي رهينة قرار خارجي، وأدخلت المالية العامة في حالة طوارئ شبه دائمة. ورغم ذلك، يُطلب من الحكومة تنفيذ إصلاحات وكأن هذا المورد مستقر ويمكن البناء عليه. هنا، يتجاوز الإصلاح حدود الكفاءة المالية ليصبح إدارة فجوات قسرية تُنقل تبعاتها إلى الداخل بدل معالجة جذورها.

أبرز هذه التبعات يظهر في بند الرواتب. فوفق بيانات وزارة المالية، يبلغ عدد المستفيدين من بند الرواتب والمخصصات نحو 292 ألف مستفيد، لا يقتصرون على الموظفين العاملين، بل يشملون موظفين مدنيين وعسكريين، ومتقاعدين، ومستفيدين من مخصصات قانونية مختلفة. ويبلغ عدد الموظفين المدنيين قرابة 120 ألفًا، والعسكريين نحو 52 ألفًا. أما فاتورة الرواتب الشهرية فتُقدَّر بنحو مليار شيكل. هذه الأرقام لا تعكس عبئًا محاسبيًا مجردًا، بل كتلة اجتماعية واسعة يعتمد عليها مئات آلاف المواطنين بصورة مباشرة وغير مباشرة.

المشكلة لا تكمن في حجم الفاتورة بحد ذاته، بل في كيفية التعامل معها ضمن خطاب الإصلاح. فالرواتب، التي يُفترض أن تكون عنصر استقرار اجتماعي ومحركًا للطلب المحلي، تحوّلت إلى أداة امتصاص للصدمات المالية. تأخير الرواتب أو صرف نسب منها لم يعد إجراءً استثنائيًا، بل أصبح جزءًا من آلية تكيّف غير معلنة. وتشير تقديرات متداولة إلى أن الذمم المتراكمة للموظفين خلال السنوات الأخيرة تجاوزت عدة مليارات من الشواكل، ما يعني عمليًا تحميل شريحة واسعة من الطبقة الوسطى دور المموّل الصامت للعجز العام.

اقتصاديًا، لهذا النهج كلفة مرتفعة. فالقدرة الشرائية تنكمش، والطلب المحلي يتراجع، وتزداد هشاشة الأسر، فيما لا تظهر مؤشرات ملموسة على تحسن مستدام في المالية العامة. الإصلاح، حين يُختزل في خفض بند أو تأجيل التزام، قد ينجح محاسبيًا على المدى القصير، لكنه يُضعف الاقتصاد على المدى المتوسط ويقوّض الثقة الاجتماعية.

أما البنوك الفلسطينية، فقد وجدت نفسها في قلب هذه الحلقة المعقّدة. فمن جهة، تعتمد الخزينة بشكل متزايد على التسهيلات المصرفية قصيرة الأجل لسد فجوات السيولة. ومن جهة أخرى، تعمل البنوك في بيئة عالية المخاطر سياسيًا واقتصاديًا. وتُظهر بيانات منشورة أن تعرض القطاع المصرفي للقطاع العام ارتفع بصورة ملحوظة خلال العقد الأخير، ما يضع البنوك أمام معادلة دقيقة بين دعم الاستقرار المالي وحماية سلامتها الائتمانية وأموال المودعين. وهكذا، تتحول البنوك من وسيط مالي إلى مدير أزمة بحكم الواقع، في غياب حلول هيكلية تخفف الضغط عن جميع الأطراف.

في هذا السياق، يبرز السؤال الجوهري حول طبيعة الإصلاح المطلوب. فحين تُقدَّم فاتورة الرواتب بوصفها رقمًا يجب خفضه، يصبح الإصلاح تمرينًا محاسبيًا تُقاس نتائجه بالجداول والنسب. أما حين تُفهم الرواتب بوصفها عنصر استقرار اجتماعي في ظل غياب أدوات سيادية حقيقية، فإن الإصلاح يتحول إلى مسألة خيارات وسياسات لا مجرد أرقام. الإصلاح الذي يركّز على خفض الرواتب دون خطة موازية لتوليد دخل بديل، أو تحفيز إنتاج حقيقي، أو تقليل التبعية للمقاصة، هو إصلاح يُحسّن المؤشرات على الورق، لكنه يترك الاقتصاد أكثر هشاشة على الأرض.

ومن هنا، يصبح من الواضح أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يقوم على التقشف وحده، بل يتطلب تنويعًا اقتصاديًا فعليًا يخفف الاعتماد على مصادر الإيرادات غير المضمونة. وعلى المدى القصير، تبرز الحاجة إلى حزمة إجراءات انتقالية، من بينها التعامل التدريجي والمدروس مع فاتورة الرواتب، وتعزيز تحصيل المتأخرات الضريبية دون الإضرار بالنشاط الاقتصادي، وإعادة تنظيم العلاقة التمويلية مع الجهاز المصرفي بما يخفف الضغط عن جميع الأطراف. أما على المدى المتوسط والطويل، فإن جوهر الإصلاح يكمن في إعادة توجيه البوصلة نحو القطاعات الإنتاجية الحقيقية—كالزراعة الحديثة، والصناعات الخفيفة، والسياحة، والاقتصاد الرقمي—بوصفها روافع قادرة على خلق فرص عمل وتقليل التبعية للمقاصة. ويستدعي ذلك أيضًا إعادة صياغة العلاقة مع المانحين الدوليين، بحيث تُوجَّه المساعدات نحو استثمارات إنتاجية مستدامة، لا إلى إدارة العجز فقط. ففلسطين تمتلك من الموارد البشرية والطبيعية ما يؤهلها لذلك، وما تحتاجه اليوم هو رؤية استراتيجية شاملة تضع الإنسان في صلب عملية الإصلاح، لا على هامشها.

في المحصلة، من حق المانحين المطالبة بالإصلاح، ومن واجب الحكومة السعي إلى الانضباط المالي. لكن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يُختزل في إصلاح أرقام فقط. الإصلاح المطلوب اليوم هو إصلاح المسار: الانتقال من إدارة الطوارئ إلى بناء اقتصاد قادر على تقليل اعتماده على المقاصة، وعلى الرواتب، وعلى البنوك في آن واحد. فالإصلاح الذي لا يخفف الهشاشة ولا يمنح أفقًا اقتصاديًا واضحًا، سيبقى إصلاحًا ناقصًا، مهما بلغت درجة انضباطه المالي.