اوروبا ليست مشاعر باردة. نحن فقط بلا حدود

2025-12-16 09:49:06

عند التأمل في الفروق العميقة بين الثقافة الاوروبية والثقافة العربية لا يمكن الاكتفاء بالحديث عن العادات او انماط العيش الظاهرة. لا بد من التوقف عند الاسس التربوية التي تشكل الانسان منذ طفولته وتؤثر في قراراته وعلاقاته ونظرته الى ذاته والى المجتمع من حوله. وللإنصاف هناك موروث اعتدنا ان نغض الطرف عنه رغم انه أرهقنا طويلا. هذا الموروث يحتاج منا ان نضغط على نمط تفكيرنا وان نعيد النظر وان نتأمل في الفروقات التي نعيشها ونقارن أنفسنا بغيرنا بصدق

في المجتمعات الاوروبية يربى الانسان منذ الصغر على ما يمكن تسميته بثقافة انا. لا يقصد بها الانانية او الانفصال عن الاخرين بل الوعي بالذات وتحمل المسؤولية الفردية. يتعلم الطفل في المدرسة كيف يفكر بنفسه وكيف يدير وقته وكيف يتخذ قراراته وكيف يخطط لحياته ومستقبله بوصفه فردا مستقلا. يعلم ان حياته ملك له وان كرامته واستقلاله جزء اساسي من انسانيته.. وهكذا تنمو الأفكار وتكبر مع الطفل وتكون حمايته المستقبلية عندما يصل الي سن البلوغ. .

في المقابل تنشأ غالبية المجتمعات العربية والشرق اوسطية على ثقافة نحن. نحن العائلة. نحن الجماعة. نحن المجتمع. في ظاهر هذه الثقافة دفء انساني وتماسك اجتماعي. لكنها في الممارسة اليومية كثيرا ما تقدم الجماعة على حساب الفرد وتقيد القرار الشخصي باسم المصلحة العامة او التقاليد او ما يفترض انه واجب اجتماعي.

لا تكمن الاشكالية في مبدأ التضامن بحد ذاته. بل في تحول ثقافة نحن الى نمط يعلم الاتكالية أكثر مما يعلم المسؤولية. يكبر الفرد وهو معتاد على ان هناك من يقرر عنه ومن يتدخل في تفاصيل حياته ومن يرى نفسه ادري منه بمصلحته. ومع الوقت يفقد الانسان قدرته على اتخاذ قرارات مستقلة ويصبح الاعتماد على الاخرين جزءا من سلوكه اليومي.

يظهر هذا الفارق بوضوح مع التقدم في العمر. في اوروبا يختار الانسان بوعي وكرامة ان يعيش في دار رعاية عند الشيخوخة. ليس لان ابناءه لا يحبونه بل لأنه يفضل نظاما يحفظ له استقلاله وخصوصيته ورعايته الصحية دون ان يكون عبئا على احد. هو يدفع الضرائب طوال حياته ليضمن هذا الحق ويثق بالمؤسسات التي تحمي كرامته.

اما في مجتمعاتنا العربية فغالبا ما يعتمد الانسان المسن اعتمادا شبه كامل على عائلته وابنائه. وفي كثير من الحالات لا يكون هذا الخيار نابعا من قناعة بل من غياب البدائل. وهنا قد يهدر حقه في الخصوصية او يتحول الى عبء نفسي داخل الاسرة او يطلب منه التكيف والصبر بدل ان تكون له مساحة شخصية محترمة.

الى جانب ذلك يظهر الفارق بوضوح في مسألة الوقت والخصوصية وتنظيم العلاقات. في اوروبا يمنح الوقت قيمة حقيقية وتحترم الخصوصية بشكل واضح. لكل انسان مساحته ووقته وحدوده. المواعيد تحترم والزيارات تنظم. ولا ينظر الى قول انا مشغول الان على انه قلة ذوق او جفاء بل تعبير طبيعي عن احترام الذات واحترام الاخر.

في المقابل نعيش في مجتمعاتنا الشرقية العربية حالة من الانفتاح المفرط على بعضنا البعض. نعتقد ان القرب الدائم دليل محبة وان عدم ترك مساحة للأخر هو شكل من اشكال الاهتمام. لكن الواقع ان غياب المسافة بين الافراد يؤدي الى توترات ومشاكل كثيرة. لا توجد حدود واضحة. ولا احترام كاف للخصوصية. ولا تنظيم حقيقي للوقت او الزيارات. يصبح التدخل في شؤون الاخرين امرا عاديا وتكسر الحدود باسم القرب العائلي او الاجتماعي.

في اوروبا يستطيع الانسان ان يقول بوضوح انه لا يملك الوقت الان لاستقبال زيارة او انه يحتاج الى وقت لنفسه دون شعور بالذنب او خوف من سوء الفهم. هذا الوضوح في العلاقات يخلق مجتمعا أكثر تنظيما واكثر استقرارا واقل احتكاكا. المسافة المدروسة بين الناس لا تعني البرود بل تعني احترام الحرية والاستقلالية.

قد يبدو المجتمع العربي أكثر اجتماعية وأكثر اختلاطا وأكثر دفئا في ظاهره. لكن هذا القرب غير المنظم كثيرا ما ينتج خلافات وحساسية مفرطة ومشاكل داخل العائلة والمجتمع. في حين ان المجتمع الاوروبي رغم تحفظه الظاهر يقوم على نظام واضح في العلاقات واحترام للحدود وتنظيم دقيق للوقت. وهذا ما يجعله في النهاية أكثر تماسكا واستقرارا.

كثيرا ما يصف المهاجرون القادمين من بلاد الشرق الأوسط ان الاوروبيين باردون عاطفيا. غير ان هذا الوصف غالبا ما يكون غير دقيق. الاوروبيون يشعرون كما نشعر. لكنهم لا يسمحون للعاطفة بان تدير حياتهم بالكامل. يوازنون بين المشاعر والعقل وبين القرب والمسافة وبين العلاقة والخصوصية.

ربما لا توجد ثقافة مثالية ولا نموذج كامل. لكن اعادة النظر في طريقة عيشنا لعلاقاتنا وفي مفهومنا للوقت والخصوصية ليست نقدا لعادات ايجابية عشناها. بل محاولة لتصحيح مسار اجتماعي اثبت انه يرهق الافراد أكثر مما يحميهم. فالمجتمع القوي ليس بالضرورة المجتمع الأقرب بعلاقاته الاجتماعية. .

علينا ان نكون صادقين مع أنفسنا. كثير من مشاكل مجتمعاتنا العربية ناتجة عن نمط حياة لم نعد نراجعه. نحن نخلط بين القرب والتدخل وبين التضامن والسيطرة. نعتبر غياب الخصوصية امرا طبيعيا. لا نحترم الوقت. ولا الحدود الشخصية. ونخجل من قول لا وكأن الوضوح عيب.

نقدس العائلة لكننا ننسى الفرد داخلها. نطالب بالواجبات ولا نعترف بالحقوق. نعلم ابناءنا الاعتماد علينا ثم نلومهم لأنهم غير مستقلين او منتجين. نريد مجتمعا متماسكا لكننا نخلق علاقات مرهقة ومليئة بالتوتر.

هذا النمط لا يصنع انسانا قويا ولا مجتمعا صحيا. بل ينتج ضغطا دائما وصراعات صامتة واشخاصا يعيشون لإرضاء الاخرين على حساب أنفسهم. والعبرة من كل هذا تحتم علينا القول ان المجتمع لا يقاس بمدى قرب الناس من بعضهم البعض بل بقدرتهم على احترام حدود بعضهم. فحيث توجد الحدود يولد التوازن وحيث يغيب الاحترام يتضرر الانسان مهما كان محاطا بالناس