“السلام العملي” بحسب نتنياهو بين الوهم والحقيقة .
أعلن بنيامين نتنياهو أن المرحلة الأولى من خطة وقف إطلاق النار في غزة “شارفت على الاكتمال”، وأن هناك “مساراً نحو سلام عملي مع الفلسطينيين”. وحتى لا نستعجل الحكم عل تصريحاته المفخخة التي لا تمثل جوهر عقيدته الموروثة من جابوتنسكي ، فأن قراءة تصريحات نتنياهو الأخيرة خلال مؤتمره الصحفي مع المستشار الألماني تكشف بأعتقادي بأن ما يسميه “السلام العملي” لا يعدو كونه ترتيبات شكلية تفرض سيطرة إسرائيل على كل ما يعتبره أمناً استراتيجيا لها ، بينما نبقى نحن الفلسطينيون في الضفة وغزة ، محاصرين بين الواقع السياسي والتهديد الأمني المستمر وفرض الوقائع على الأرض وغياب الضغط الجاد والعملي من المجتمع الدولي ، سوى من انتفاضة الشعوب المتضامنة معنا في كل مكان من هذا العالم المتغير اليوم .
ففي كلمته مع المستشار الالماني ، شدد نتنياهو على أن السيادة الأمنية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط ستبقى دائما بيد إسرائيل ، وهو ما يعني أن أي ترتيبات سياسية أو اقتصادية، أو أي مفاوضات مستقبلية، ستتم داخل إطار يضمن لأسرائيل مركز السيطرة الحقيقية وفق مفهوم العقيدة الصهيونية ، ويجعل الفلسطينيين أطرافا مراقبة أكثر من كونهم شركاء . هذه الرؤية تتسق مع الخطة الثلاثية المراحل التي تم الاعلان عنها مؤخرا وفق خطة ترامب المفخخة ، والتي تبدأ بترتيبات فنية مثل تبادل الأسرى ووقف نسبي للعمليات العسكرية ، لكنها تهدف على المدى المتوسط إلى ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأرض والسيادة الأمنية ، قبل الحديث عن أي حلول سياسية حقيقية .
أما بالنسبة للضفة الغربية ، فقد أشار نتنياهو إلى أن “الضم السياسي للأراضي الفلسطينية لا يزال محل نقاش” كما قال ، رغم فرض السيطرة على مساحات كبيره منها وفق الوقائع الأستيطانية المتسارعة على الأرض . وأن “الوضع الراهن سيبقى كما هو في المستقبل المنظور” . هذا التصريح يوضح أن إسرائيل لا تسعى إلى حل جذري أو نقل السلطة بالكامل ، بل تبحث عن طريقة لضمان استمرار السيطرة عبر الإدارة العملية للواقع القائم بمسميات قد تكون مختلفة ، مع ترك الباب مفتوحا لنقاشات مستقبلية على أساس شروط إسرائيلية مسبقة ، في محاولة الخروج من مأزق العزلة الدولية زالازمة الداخلية .
في الوقت نفسه ، أعاد نتنياهو التأكيد على أن اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية ستستمر حتى بدون دولة فلسطينية مستقلة ، وهو ما يعكس أولوية الاستراتيجية الإسرائيلية على المستوى الإقليمي المتمثلة في ضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية والتطبيع مع جيرانها وبقاء هيمنتها بمنطقتنا بغض النظر عن أي تقدم بالمسار السياسي الفلسطيني الغائب أصلاً ، خاصة بما يتوافق مع جوهر الرؤية الجديدة للأمن القومي الامريكي التي أعلن عنها قبل ايام من إعادة تموضع الولايات المتحدة في مناطق العالم من خلال الاعتماد على الوكلاء ونقل الاهتمام الامريكي الى الداخل "أمريكيا اولاً" والى منطقة غرب الكرة الأرضية بمثال ما يحدث اليوم مع فنزويلا ، كوبا وكولمبيا وغيرهم من الدول ، بأضافة الى الانتقال بالسياسة الأمريكية الى مسار الصفقة مع روسيا بشأن أوكرانيا والتغير بالنظرة الى الصين كما أشارت تلك الإستراتيجية الاخيرة ، والتي يمكن لي ان أصفها بالأنتقال إلى مرحلة جديدة من الإمبريالية الإقتصادية الأمريكية .
وهذا ما يجعل أي حديث عن “سلام عملي” يبدو ناقصا ودون معنى ، لأنه قائم على تناقض جوهري متمثل في تقدم إقليمي مقابل تجميد الحل السياسي لقضيتنا الوطنية منذ النكبة وتجسيد المشروع الإستعماري في فلسطين ، خاصة مع عدم وضوح اي تغير حقيقي بالموقف الأمريكي التقليدي المعادي لحقوق شعبنا ، بواقع استمرار الضغوطات التي تمارسها علينا الولايات المتحدة ومشاركتها في كل أشكال الجرائم الأسرائيلية وحمايتها من العقاب وتقديم مشاريع تعزز مصالحها الإستراتيجية .
المرحلة الأولى من خطة وقف إطلاق النار ، التي يتفاخر نتنياهو باكتمالها تقريبا ، تتعلق أساسا بالترتيبات التقنية وهي ، تبادل الأسرى ووقف نسبي للعمليات العسكرية واستعادة رفات آخر رهينة" إسرائيلي . أما المرحلة الثانية"، وهي المرحلة الأصعب بحسب وصف نتنياهو نفسه ، فتشمل محاولة فرض ترتيبات أمنية في غزة ، نزع سلاح المقاومة ، وإدخال قوة دولية للمراقبة . هذه المرحلة ، بحسب الخبراء صعبة التطبيق ، لأنها تفترض قبول الفلسطينيين بتنازلات كبيرة مقابل ترتيبات أمنية جزئية كما وقبول دول مختلفة بالمشاركة في القوة الدولية وفق مخطط ترامب ، بينما إسرائيل تحتفظ بالسيطرة الكاملة على الأرض .
من هنا ، يمكن وضع السيناريوهات المحتملة التالية للمستقبل :
١. السيناريو المتفائل
يتطلب هذا السيناريو ضغطا دوليا وعربيا كبيرا وموقفا فلسطينيا حازما ، يدفع إسرائيل نحو تقديم تنازلات حقيقية ، وربما قبول صيغة تمنح الفلسطينيين بعض السيطرة الفعلية على غزة والضفة ، مع ضمان حقوقهم الاقتصادية والسياسية . لكن يبدو هذا السيناريو صعب التحقيق في ظل سيطرة إسرائيل الأمنية المطلقة ، وإصرار نتنياهو على إبقاء “السيادة الأمنية” بالكامل تحت اليد الإسرائيلية ودون وقف الاستيطان والرهاب المستوطنين .
٢. السيناريو الواقعي.
يبدو السيناريو الأكثر انسجاما مع تصريحات نتنياهو وسلوكه السياسي في الأشهر الأخيرة يتلخص في ترتيبات أمنية مشددة ، إدارة هشة للقطاع ، استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني ، ومفاوضات طويلة بلا نتائج حاسمة . هذا السيناريو يمثل مرحلة انتقالية جزئية ، لكنه لا يغير الواقع القائم ،
ويُبقينا نحن الفلسطينيين تحت القيود نفسها ، مع وعود سياسية غير ملموسة أو سراب حلول أمريكية .
٣. السيناريو الأسوأ.
يشمل انهيار وقف النار وعودة العمليات العسكرية بوتيرة أعلى ، بسبب استحالة فرض نزع السلاح بالقوة أو بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية دون مقاومة فعلية . في هذا السيناريو ، تتضاعف الكارثة الإنسانية ، ويزداد الاحتقان السياسي وتصبح أي محاولات لحل القضية الفلسطينية أكثر تعقيدا .
الحقيقة بأعتقادي ، أن تصريحات نتنياهو ليست مجرد مواقف إعلامية ، بل هي إطار استراتيجي يحدد معالم المرحلة المقبلة ، سلام بلا سيادة فلسطينية ، تهدئة بلا حل ، تطبيع بلا دولة ذات سيادة ومفاوضات تحت سقف الأمن الإسرائيلي وربما تحت النار ايضا .
إن مصير غزة ، بل مستقبل القضية
الفلسطينية بالكامل مرتبط بقدرتنا نحن الفلسطينيين على إعادة بناء مشروعنا الوطني التحرري ، وبإرادة المجتمع الدولي لتغيير المعادلة الأمنية والسياسية القائمة .
وفي هذا السياق ، فأن أي حديث عن “السلام العملي” يجب أن يُقرأ بحذر شديد ، فهو يتعلق أكثر بإعادة ترتيب الواقع من منظور إسرائيلي سياسي وانتخابي لنتنياهو ، وليس بقصد إيجاد حل عادل ومستدام . فبينما يركز الإعلام الدولي غالبا على تبادل الأسرى أو وقف إطلاق النار المؤقت ، يبقى السؤال الأكبر هو ، هل هناك إرادة حقيقية لتقديم تنازلات جوهرية ، أم أن الخطة ستبقى مجرد أداة لضمان استمرار الوضع الراهن وإدارة الأزمة بما يحقق المصالح الأسرائيلية الإستراتيجية بمنطقتنا ؟
من هنا ، ومن ضرورة الإستفادة من تجربة الأنتفاضة الشعبية الكبرى( أنتفاضة الحجارة ) ودروسها ، والتي صادفت ذكراها الايام الماضية ، يصبح من الضروري اعادة صياغة مشروعنا الوطني التحرري بوضوح وجرأة وإرادة سياسية وبرؤية فلسطينية موحدة وواضحة في اطار منظمة التحرير وبما يتطلب من ضرورة استنهاضها وتطويرها كجبهة وطنية عريضة تمثل شعبنا الفلسطيني سندا لتراثها التاريخي وبما لها من مكانة شرعية دولية ، وبما يترافق على ضرورة اجراء الإنتخابات العامة بشكل سريع وإصلاح نظامنا السياسي بقرار وطني مستقل .
بحيث تعتمد استراتيجية إعادة صياغة مشروعنا الوطني التحررري اعتباره صراعاً ضد مشروع كولونيالي مدعوم من قوة آخذة في التراجع . وأن نتعامل ونتعاون وفق ذلك مع الأشقاء العرب والدول الفاعلة من الأصدقاء على اساس تلك الرؤية مع تصريحات نتنياهو هذه بوعي كامل . وأن يتم ممارسة اشكال الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل لتقديم حلول حقيقية تتجاوز مجرد إدارة الواقع الذي تحاول فرضه أسرائيل ، بل من اجل أن تفتح المجال أمام حق شعبنا الفلسطيني بتقرير المصير وفي السيادة والحياة وفق القرارات الأممية كرزمة واحدة ووفق نصوص القانون الدولي والرأي الأستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن إنهاء الأحتلال ، على ان يكون واضح ان هذا الافق وأي مسار سياسي يجب بالضرورة أن يؤدي الى اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والديمقراطية ذات السيادة ، وليس فقط بهدف فتح أفق سياسي "قد" يؤدي الى دولة "بالوقت المناسب" دون سقف زمني ودون معرفة مفهوم "الوقت المناسب" الذي ممكن ان يأتي بعد استكمال المشروع الأسرائيلي وتهجير شعبنا والقضاء على السلطة الوطنية كمفهوم ، خاصة بعدم وجود مَن يعارض تلك السياسات مِن ما يُسمى بالمعارضة الأسرائيلية لنتنياهو .
أن أي خطة مستقبلية لا تراعي هذا البعد ستكون محكومة بالفشل ، مهما بدت المرحلة الأولى أو الثانية حول غزة ، خاصة مع تصعيد الحرب الأستيطانية اليوم بالضفة الغربية واقتحام الجامعات والمخيمات والمدن بشكل يومي وفق رؤية التوسع والإحلال الملازمة للعقيدة الصهيونية التي في جوهرها لا تقبل بالآخر وتستهدف كينونتنا الوطنية ووجودنا .